عندما أذهب إلى المملكة العربية السعودية أجعل من بين أولوياتي زيارة مكتبة جرير، واستطعت خلال عدة سنوات أن أقتني الكثير من كتب التنمية البشرية التي ساهمت في بناء معرفتي وتفكيري وبمرور الأيام توطدت بيني وبين مكتبة جرير علاقة حب وتبجيل لتلك المنشأة العملاقة التي ترجمت آلاف الكتب الأجنبية وجعلتها سهلة ورخيصة وقابلة للتداول، ولم أكن أنشغل كثيرا بتاريخ تلك المكتبة التي أخبرني أحد أساتذتي السعوديين أن مؤسس المكتبة هو المهندس السعودي محمد العقيل الذي كان يدرس في الولايات المتحدة للحصول على الماجستير في الهندسة، وتبلورت الفكرة في عقله وعندما عاد من دراسته لم يمكث طويلا في وظيفته كمهندس في أحد مكاتب الاستشارات الهندسة وانصرف إلى تحقيق حلمه فأنشأ محلا صغيرا لبيع الكتب والقرطاسية والأدوات المدرسية في عام 1979 وبعد تفكير وعميق قرر العقيل أن يترك الوظيفة ويحلق في سماء العمل الحر؛ وتنازعته ثلاثة مجالات العقارات أو المقاولات او الكتب والقرطاسية وبعد أن حلل جميع المعطيات بأسلوب علمي قرر أن يفتح مكتبة، فكان قراره إيذانا بميلاد مكتبة جرير. لا زلت أذكر تلك المكتبة في شارع المتنبي بالرياض عندما كنت طالبا في جامعة الملك سعود في منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي. بدأ المشروع بعاملين اثنين، وكانت تحقق ربحا سنويا يقدر بمائتين ريالا عمانيا فقط، خلال ثلاثة عقود تطورت المكتبة إلى شبكة مكتبات جرير الموجودة في أغلب العواصم العربية كأشهر مكتبة للكتب العلمية المترجمة ويعمل فيها 1200 عاملا وتحقق أرباحا يومية تصل إلى 400000 ريالا عمانيا في اليوم الواحد. ويتحدث مؤسس المكتبة التي صارت من بين معالم مدينة الرياض عن بدايات مشروعه الذي ضحى من أجله بوظيفته المريحة كمهندس بأن مشروعه بزغ في عقله ثم تجسد في مكتبة متواضعة بشارع المتنبي على مساحة 50 مترا ثم تطورت إلى كيان عملاق يحتل 50 ألف متر مربع. لقد نهج العقيل التخطيط العلمي السليم لمشروعه، وابتعد به عن العشوائية ومنحه وقته وتفكيره وألبسه طموحه وأحلامه حتى بلغت فروع مكتبته 39 فرعا داخل السعودية وخارجها، وكلل تلك النجاحات بتحويل 30% من أسهمها للاكتتاب العام. استطاعت مكتبة جرير أن تبقي سوق الكتاب مزدهرا، واثبتت أن القارئ العربي لا يقل اهتماما بالكتب والمعرفة عن أي انسان آخر في العالم إذا توفر له المحتوى الفكري والمعرفي الجاد. ويقدم العقيل نموذجا ناجحا لكل شاب يرغب في إنشاء مشروعه الخاص، من خلال ثقته في مشروعه بالرغم من غبار التشكيك الذي ينثره البعض حول عزوف القارئ العربي عن الكتاب والثقافة والفكر. وكأنه يقول إن المجال متاح لكل شخص يؤمن بمشروعه ويدرك آفاقه ويستوعب متطلباته.
لعل أهم عوامل نجاح هذا النموذج يكمن في وضوح رسالته التي تسعى لتحقيق الربح من خلال ما ينفع الناس ويرتقي بهم، وإيمانه العميق بمشروعه وتركيزه عليه وانتمائه إليه وتضحياته من أجله والتسويق الممتاز واستيعابه لمبدأ التطوير والتغيير. ففي الوقت الذي يشهد سوق الكتاب تقهقرا، بدأ بنشر الكتب المترجمة إلى اللغة العربية في أشكال أنيقة وجاذبة وبأسعار مناسبة، كما حرص على تطوير معروضاته من خلال تسويق التكنولوجيا ووسائط التعلم. تحية لهذا الرجل الذي أبقى سوق الكتاب حيا ونشيطا.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية