عادل سعد
مع ارتفاع هامش القلق على الأمن الغذائي عالميًّا، تظل هناك العديد من الحقائق بمعزل عن الاهتمام إن لم يكن هناك أهداف معيَّنة للتغطية عليها وإبعادها عن فرص المداولة فيها.
الأمم المتحدة تتحدث عن ملايين البشر المرشحين للانضمام إلى قائمة الذين يعانون العوز الغذائي في إفريقيا وبين مجاميع اللاجئين، معلومات أخرى تفيد أن دولًا بعَيْنها ذات كثافة سكانية اعتيادية مرشحة إلى هذا الطريق، بل إن بلدًا مثل العراق وضع مسألة الأمن الغذائي على الطاولة مؤشرًا تداعيات لا حصر لها على مستقبل فرص المواطنين العراقيين في الحصول على لقمة تسد أرماقهم، والطريف المر أن جوقة من المسؤولين والنواب تداعوا إلى (غداءات) أو (عشاءات) عمل لتدارس هذا الخطر المحدق، أو حتى إلى وجبات إفطار مبكرة لتدارس الوضع واتخاذ ما يلزم بشأنه، أما على الصعيد العالمي فهناك من أمسك بهذا العنوان المغري إعلاميًّا وبدأ باستخدامه سياسيًّا للنيل من الطرف الآخر على أساسين هامشيين، الأسبق، يتعلق بالزحف الصحرواي وتحييد أراضٍ إضافية من الخدمة الزراعية، الثاني تداعيات الأزمة الأوكرانية، ولكم أن تضيفوا ما شئتم من معلومات عن نقص الأسمدة، والوسائل القديمة في الزراعة، والهدر في مياه السقي، وقلة المنظومات الحديثة في الإرواء التي تعتمد الرش والتنقيط. ومن المفارقات المرة في هذا التجييش الإعلامي أن هناك من يتحدث عن شبح مجاعات تنتظر دولًا محسوبة وفق التصنيف الاقتصادي أن تكون سلات غذائية لإطعام شعوبها ويكون لها فائض غذائي للتصدير، ولكم في كل ذلك أن تترحموا على الفرنسية ماري انطوانيت زوجة لويس الرابع عشر حين اقترحت توزيع (الكاتو) المعجنات المزينة على الفقراء الفرنسيين الذين ثاروا آنذاك مطالبين بحلول لمجاعاتهم.
الحال ليس من الحصافة أن يشكك أحد بوجود أزمة أمن غذائي عالمي الآن مع تباين معدلاتها بين قارة وإلى أخرى، لكن المشكلة تكمن في التفاصيل والأسبقيات، وكذلك في فساد النيات وقلة إن لم نشر إلى تراجع الصدق في التعاطي مع هذا الموضوع.
بتفصيل إضافي أزمة الغذاء في العالم أزمة مزمنة، وإذا كان الرئيسان الروسي بوتين، أو الأوكراني زيلينسكي وراءها بالتوظيف السياسي الجديد، فإن اتهام المحصنات تظل وجهة نظر إذا صح التوصيف.
في كل الأحوال أنا لا أهتم هنا بما على الحكومات من مسؤوليات في مواجهة تداعيات هذه الأزمة، فلقد استهلك هذا العنوان المزيد من التوصيات والمقترحات، ولا يمكن أن تدَّعي حكومة واحدة الآن أنها على جهل بما يلزم من إجراءات وحلول، ولست معنيًّا بالمقترحات التي لدى الأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ولا عن برنامج الغذاء العالمي، فالجميع لا يفتقرون للحلول الجاهزة، ما يعنيني هنا منظومة القيم التي ينبغي أن تغطي موضوع الأمن الغذائي.
إن واحدًا من الأسبقيات التي ينبغي العمل بموجبها، الكف عن نزعات المتاجرة بالمجاعات التي تضرب العالم بين الحين والآخر والامتناع عن هذا المحذور الأخلاقي، وبالمتابعة ذاتها، الكف عن استخدام هامش العوز الغذائي لتوسيع دائرة الفساد المالي. ولي هنا أن أشير إلى أني التقيت خلال تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي في الحظر الاقتصادي على العراق وزير التجارة الأسبق السيد محمد مهدي صالح الذي أنجز مشروعًا للبطاقة الغذائية على درجة عالية من العدل في الحماية الغذائية للشرائح الاجتماعية الأكثر تضررًا من الحصار آنذاك، ونشرت ما قاله لي في مجلة (ألف باء) التي كانت تصدر في بغداد.
لقد أكد لي هذا المسؤول الحكومي المحنك الأمين على الواجبات التي كان يضطلع بها، أن ما يحاصره ويحاول أن يثبط عزيمته الإجرائية، التسلل التخريبي إلى القيمة الأخلاقية التي تحكم إجراءات إطعام الفقراء.
بخلاصة تأسيسية، الأمن الغذائي عالميًّا بحاجة ماسة الآن إلى منظومة اعتبارات تترفع على التصيّد السياسي وأمراض التخمة، أو استدراج الفقراء إلى خانة التسول، بل والكف عن دراسة الأزمة في مطاعم الدرجة الأولى.