مسؤولون ومهندسون:
■ عدم وضوح مسار للتخطيط العمراني والاعتماد على المخطط الوافد سبب رئيسي للمشكلة
■ هناك معايير دولية غائبة وتجميل المدن وتطويرها يقتصر على مناطق معينة
■ ضرورة تبني استراتيجية عمران واضحة تراعي الظروف الاجتماعية والاقتصادية


استطلاع ـ عيسى بن سلَّام اليعقوبي:
■■ أكد عدد من المهندسين والمختصين بالشأن العمراني في السلطنة أن الذائقة الجمالية في الأحياء السكنية ليست حاضرة في العديد من محافظات وولايات السلطنة، وأن عمليات تجميل المدن اقتصرت على الواجهات في المدن الحديثة أو المخططات الإسكانية الحديثة المحاذية للشارع العام، وذلك لعدم وضوح مسار التخطيط العمراني، والاعتماد الكلي على المخططين الوافدين والرسم المساحي الوافد، رغم وجود كوادر وطنية مؤهلة تمتلك القدرات المطلوبة لأداء هذا الدور المهم.
(الوطن) استطلعت الآراء لمناقشة هذه الإشكالية واقتراح حلول جذرية لها. ■■
البعد الجمالي مفقود
في البداية يقول الدكتور رجب بن علي العويسي: كانت رؤية القيادة الحكيمة في التخطيط العمراني مرتبطة بالذائقة الجمالية العمانية في التوازن بين الماضي والحاضر وعبر عصرنة المدن بما لا يفقدها خصوصيتها، وهو ما عبَّر عنه الاهتمام بنوعية معينة من الألوان والاشتراطات التي وضعتها الجهات المعنية في هذا الجانب، في حين أن البُعد الجمالي يتجاوز حدود الألوان إلى عمليات التخطيط والتنظيم ووجود مساحات مناسبة لاستخدامها كالمتنزهات وأرصفة الشوارع ووجود مسارات للمشي وأخرى للدراجات الهوائية.. وغيرها للعب الأطفال، بل أيضًا وجود أماكن لتصريف حاويات القمامة، غير أن هذا الأمر في ظل عمليات التوسع الحاصلة في التخطيط العمراني شابَهُ بعض الغموض وعدم المتابعة وكان الاتجاه أكثر في السنوات الأخيرة في ظل ازدياد عدد السكان إلى المطالبة بتوزيع الأراضي في أماكن أخرى خارج المخططات السكنية، الأمر الذي لم تستوعبه جهود التخطيط العمراني سواء كان في الشؤون البلدية أو مخططات الإسكان، هذا الأمر أدى إلى الاهتمام بسرعة تنفيذ المخططات السكنية أكثر من الاهتمام بالبُعد الجمالي والتخطيط العمراني والتنظيمي لها، وهو ما أدى إلى الخروج عن نسق التخطيط الحضري، والمعايير المرسومة له في ظل التوجُّهات العالمية نحو المدن الذكية.
وأضاف: اقتصرت عمليات التجميل والذائقة الجمالية على الواجهات في المدن الحديثة أو المخططات الإسكانية الحديثة المحاذية للشارع العام داخل مركز المدينة وهو ما يظهر في مسقط وصحار دون التركيز على الأحياء السكنية الداخلية، فمثلًا يجد المتتبع للتخطيط العمراني في مسقط والتي يمكن أن نشير فيها إلى منطقة المعبيلة الجنوبية والموالح باعتبارها من أحدث المناطق الإسكانية أن تخطيط الأحياء السكنية فيها يفتقر لهذا البُعد الجمالي والتنظيم الشكلي وتعدد المداخل والمخارج أو حتى ما بعد تنفيذ هذه المخططات فإن الاهتمام الجمالي بها يكاد يكون معدومًا والتركيز على استحياء يتجه نحو المخططات التجارية، وإن كانت ترتكز فقط على البنية الأساسية كشبكات الطرق والمياه والاتصالات بينما البُعد الجمالي النوعي والذائقة التنظيمية والجمالية تكاد تكون غير موجودة في الأحياء السكنية بمحافظة مسقط.. أو غيرها من المحافظات. ويشير العويسي إلى أن السلطنة خطت خطوات واسعة في التخطيط العمراني مع بداية النهضة؛ إذ لا يمكن مقارنة ما هو واقع اليوم من نمو في هذا القطاع شكلًا ومضمونًا بما قبل عام 1970، وهناك الكثير من التحولات الإيجابية التي شهدها هذا القطاع، فإن المتابع للتحولات الحاصلة في تخطيط المساكن الشعبية يقرأ فيها نمو مفهوم التخطيط العمراني المعاصر، ومع ذلك فإنَّ عدم وضوح التخطيط العمراني والنماذج التطبيقية التي تعتمدها الجهات المعنية وضعف مستوى التقييم والتحديث المستمر لها القطاع أدى إلى الكثير من الثغرات التخطيطية، فعلى الرغم من أن هناك العديد من المخططات السكنية الحديثة إلا أن التخطيط العمراني فيها يواجه الكثير من الثغرات والتشوهات والافتقار إلى التنظيم السليم والتخطيط الواضح، سواء ما يتعلق منها بالأحياء السكنية ومستوى الترابط بين بعضها البعض أو بالشوارع الداخلية ومستوى الاتساع فيها أو ما يتعلق بطريقة الرسم المساحي للأراضي وضعف وجود فرص للتكامل والتناغم بينها، أدى ذلك إلى توزيع الأراضي في مجاري الأودية والأماكن المنخفضة أو التداخل بين المخططات الإسكانية والصناعية والتجارية ووجود مساحات غير مستغلة في تخطيط الأحياء السكنية، ناهيك عن غياب البُعد الجمالي والذائقة الحضرية في التخطيط من حيث توافر المتنفسات والمتنزهات.. وغيرها من الممارسات التخطيطية التي هي أقرب إلى التخطيط العشوائي رغم حداثة بعض المناطق، كما يستوي في ذلك مختلف المحافظات، مع بعض الخصوصية لمحافظة مسقط لاعتبارات مختلفة، ومع ذلك فهي في مخططاتها الإسكانية تعاني من المشكلة ذاتها.
تبني استراتيجية واضحة
وأوضح العويسي أن هذا الأمر يعود لعدة أسباب، منها عدم وضوح مسار التخطيط العمراني الذي انتهجته السلطنة في هذا الشأن، والاعتماد الكلي على المخططين الوافدين والرسم المساحي الوافد، في تخطيط المناطق والأحياء السكنية، بالإضافة إلى ضعف الخلفية الثقافية والذائقة الجمالية لهؤلاء المخططين والرسامين فيما يتعلق بالبيئة العمانية والثقافة العمانية، الأمر الذي أوجد الكثير من الإشكاليات في طريقة توزيع الأراضي، ناهيك عن تدني مستوى تبادل الخبرات والأفكار المتعلقة بالتخطيط نظرًا لتعدد الجهات المشرفة على هذا الموضوع وعدم وجود مرجعية واضحة في هذا الأمر، بالإضافة إلى أن دور الإسكان أقرب إلى مسألة التوزيع للأراضي دون إدخال البُعد الجمالي والذائقة الحضرية في عملها، وهو أمر نأمل أن تعمل الاستراتيجية العمرانية على حلحلته وإعادة رسم مساره من جديد.
ويؤكد رجب العويسي ضرورة إعادة النظر في منهجيات التخطيط العمراني وإدخال البُعد الحضري الجمالي والذائقة الجمالية ومعايير المدن الذكية وجودة الحياة كعنصر أساسي في عملية إعادة تصحيح مسار العمل في هذا القطاع، وتبنِّي استراتيجيات عمل واضحة تراعي كل الظروف والمتغيرات البيئية والمناخية والخصوصيات.. وغيرها بما يسهم في الاستفادة من التوجهات العالمية في هذا الشأن ويعمل على تحقيق جودة الحياة الإسكانية في ظل التحديات المرتبطة بالازدحام المروري والكثافة السكانية وتعثر وصول الخدمات أو انقطاعها وتركز مراكز التسوق في أماكن دون أخرى أو دخول الصناعيات والعشوائيات وبعض المرافق الخدمية كالتصريف الصحي ومجمعات الكهرباء أو المجالس العام وتداخلها مع البيوت، الأمر الذي يتنافى مع وجود بيئة إسكان صحية آمنة ومعايير التخطيط العمراني الحضري الذكي.

معايير مهملة
ويقول محمد بن سالم الوهيبي ـ مهندس مدني وخبير متابعة مشاريع بمكتب رئيس بلدية مسقط، متقاعد: التخطيط العمراني في الأحياء السكنية للأسف صمم من قبل أفراد أو مؤسسات غير مؤهلة للتخطيط العمراني ويفتقد إلى الكثير من المعايير الدولية، منها على سبيل المثال المساحات الخضراء وممرات المشاة والدراجات الهوائية وأماكن الرياضة ومواقع الترفيه وتحديد مساحات للخدمات كمحطات الكهرباء وخطوط المياه والكهرباء والهاتف ومواقع حاويات القمامة ودورات المياه العمومية وتنظيم الأسواق، وعدم وجود تجانس في الاستخدامات، كما نشاهد في كل الأحياء اختلاطًا في استخدامات المباني السكنية والتجارية، ناهيك عن الامتدادات التي تمنح وتوثر على مجاري الأودية وإحرامات الشوارع، وكذلك الاستحداثات التي تحدث بين الحين والآخر، بالإضافة إلى عدم وجود تنظيم ينظم الاستعمال التجاري، هناك خلط في الأنشطة وخلط سكن العزاب في الأحياء السكنية. وأشار إلى أنه نظرًا لعدم وجود مخططين مختصين وعدم وجود مخطط هيكلي عام في السلطنة فإن العديد من المخططات تعد عشوائية ومعظمها (قص ولصق)، على سبيل المثال مخطط المعبيلة والعامرات وجميع التحديات التي تواجهه التخطيط هو غياب المخطط الهيكلي الذي يحكم التخطيط، بالإضافة إلى قيام أصحاب الأراضي الكبيرة والمزارع بإعادة تخطيطها وإعادة بيعها وكلها مخططات من أجل الربح ولم تراعِ الاحتياجات الأسرية وإيجاد بيئة جاذبة للاستمرار فيها.. وقس على ذلك جميع المحافظات إذا استثنينا حي الصاروج بشاطئ القرم الذي بدأ يتأثر بالعشوائيات والمخالفات التخطيطية.
وأوضح الوهيبي أن المخططات العشوائية غير المنظمة تؤثر على نفسية القاطن فيها، وتوجد كثيرًا من التوترات والمشاحنات بين الجيران نتيجة عدم وجود متنفسات تخطيطية للسكان ومواقف سيارات ومعظمها يغرق أثناء الأمطار الغزيرة، ويجب معالجة هذا القصور في التخطيط بإعادة تخطيطها وأنسنتها بالخدمات وحل مشكلة المواقف وتصريف مياه الأمطار وزيادة المساحات الخضراء وممرات المشاة والدراجات الهوائية وأماكن للرياضة والأسرة وإنشاء دورات المياه.
بيئة غير مركزية
وفي ذات السياق قال المهندس أحمد بن ناصر العزيزي ـ خبير معتمد من وزارة العدل ومؤسس شركة بوليڤارد للاستشارات الهندسية: الذائقة الجمالية رغم أنها تبقى ذات تقييم موضوعي، إلا أن الحد الأدنى موحَّد نوعًا ما، ويوجد العديد من الأحياء السكنية في مسقط ذات طابع جمالي مميز، ومنها على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ مطرح التي تتميز بالتصميم التراثي والشرفات المشهورة على (سور اللواتيا)، والعذيبة والقرم ذات التصميم العصري المتكامل، وقد لا تقتصر نظرة الذائقة الجمالية على الواجهة لتصل إلى نوع من التكاملية وتوفر البنية التحتية الأساسية والخدمات العامة بصورة منسقة والتي تحتاج إليها معظم الأحياء السكنية لرفع مستوى جودة الحياه السعيدة والتي تدخل كأحد معايير المدن على مستوى العالم العام أو حتى التقييم الإقليمي. وأشار العزيري إلى أن السلطنة كانت لسنوات طويلة في مستوى إداري مركزي يقتصر في النمو العمراني والتركيز على التخطيط الحضري على مدن محددة مثل: مسقط وصلالة ونزوى وصحار وصور وخصب وعبري وبمستوى أولويات واضح، إلا أن الحكومة قامت مؤخرًا بصورة جادة في إيجاد بيئة غير مركزية لاتخاذ القرارات وتوزيع الاستثمارات، بحيث تتيح الفرصة لجميع ولايات السلطنة لوجود تخطيط عمراني في بناء تطور متسارع يسهم في أن تحظى بفرصتها لتوفير تطور عقاري ملموس.
وقال: إن هناك العديد من الإشكاليات تعاني منها المدن، سواء في السلطنة أو خارجها في ظل غياب خريطة طريق لتوفير تخطيط متكامل بنظرة طويلة المدى لأهداف محددة يتم الاتفاق عليها مع مراعاة متطلبات التخطيط الحضري والتي تشمل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والجمالية وضمان توافر جودة الحياة، والالتزامات البيئية والتراثية ومتطلبات البنية التحتية والمرافق العامة الأساسية.
موضحًا أن المدن الذكية أو الرقمية أو ما يسميها البعض المدن الإيكولوجية هي مدن تصمم لتخدم إيجاد بيئة مستدامة ومحفزة على الابتكار وتبدأ من إنشائها بمواد صديقة للبيئة ويفضل أن تكون ضمن البيئة المحيطة ويتم تشغيلها باستغلال الطاقة النظيفة، وتوجد فرص كبيرة لإيجاد مدن متكاملة لتصبح من أبرز المدن المستدامة في السلطنة بسبب توفر العوامل الأساسية لإنشاء وتشغيل هذا النوع من المدن.
وأكد العزيزي أن إشكالية العشوائيات في السلطنة محدودة جدًّا وقابلة للسيطرة عليها، ولا أعتقد أنها تمثل تحديًا في ظل توافر البنية القانونية والإجراءات والمتابعة القضائية، حيث إنه يجب أن تتمتع المدن ببنية تحتية ممتازة بتصميم معماري مميز وتوفير مساحات خضراء ومرافق عامة ومحفزات لممارسة الأنشطة الرياضية وتوفير وسائل النقل العامة لإيجاد بيئة أكثر استدامة، ويمكن إعادة هيكلة الأحياء السكنية بالاستعانة بالمكاتب الاستشارية المتخصصة لدراسة الأوضاع الاجتماعية أولًا؛ لأن إعادة هيكلة هذه الأحياء هو تغيير ثقافي يجب أن يتماشى مع الأوضاع الاجتماعية ودعم ذلك بتوفير المتطلبات التي تحث القاطنين على دعم هذا التغيير وذلك بضمان توفير مستوى عالٍ من جودة الحياة بأقل تكاليف الإنشاء وتقليل تكاليف التشغيل بقدر الإمكان وذلك بالاعتماد على إيجاد عوامل بيئة مستدامة.
معايير وعناصر مهمة
وقال ناصر بن عبدالله العبادي ـ المدير التنفيذي لمكتب إعمار للاستشارات الهندسية: الذائقة الجمالية للأحياء السكنية تتكون من مجموعة عناصر إن وجدت وتكاملت تحققت جمالية الحي، وهذه العناصر تتمثل في النمط المعماري للمباني وتنوعه وتوفر الفضاءات العامة كالحدائق والمتنزهات والمساحات الخضراء وجودة البنية التحتية من طرق ومواقف السيارات ومرافق وخدمات أخرى إضافة إلى مستوى الخدمات العامة من سبل النقل والنظافة العامة للحي.. وغيرها، ويعد الوعي المجتمعي بأهمية المحافظة على عناصر الحي المختلفة والرقي بها من الأساسيات الممكنة لجماليات الأحياء. وأوضح العبادي أن التخطيط العمراني في السلطنة بحاجة إلى مراجعة شاملة وعميقة، حيث ظهرت على السطح خلال السنوات الماضية العديد من المشاكل التخطيطية بالمدن الرئيسة تواكبت مع النمو المطرد لهذه المدن مما يتطلب إيجاد حلول جذرية لحلحلة ومعالجة هذه الأخطاء التخطيطية ووضع الاستراتيجيات التخطيطية لتفاديها مستقبلًا، ولعل الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية سترسم خريطة الطريق للحلول المرجوة لذلك. مؤكدًا أن التخطيط الحضري أو العمراني السليم هو أساس تنظيم المدن وتطورها وأي مدينة أو محافظة بدون مخطط عام حضري (Master Plan) لا شك ستواجه إشكالات عدة من عشوائية في النسق العمراني واستعمالات المباني وضعف البنية التحتية وقصور في إدارتها وتطويرها لتواكب متطلبات النمو العمراني والسكاني للمدينة مما ينتج عنه شلل تام وشيخوخة للمدينة. وقال العبادي: إن الحلول ليست مستحيلة لتطوير الأحياء السكنية وإنما ستأتي بتكلفة عالية لكن لا بد منها لإعادة الحياة إلى المدينة، وذلك كما أسلفت بوضع الاستراتيجيات التخطيطية السليمة وخطط تنفيذية لها لمعالجة الوضع القائم وتفادي تكراره مستقبلًا.