د. عبدالعزيز بن هلال الخروصي:
وُلِـدَ الشيخ الجليل هلال بن سالم بن محمد الرواحي في بيت علم وأدب وكرم، وتربّى في دوحة من الإيمان والتقوى والأخلاق السامية، نشأ كأترابه في زنجبار، حيث الخُضرة والماء والوجه الحسن، تعلّم في بواكير حياته القرآن الكريم. وبما أنّ والده من الفقهاء والأدباء فقد سعى بكل ما يملك لتعليم أولاده، فاستقدم المعلمين إلى بيته لتعليمهم وتعليم التلاميذ في الحيّ الذي يقطنه. يكبُر الشيخ هلال وتتوسع مداركه وتتنوع معارفه، وكبرت معه ملكاته القلمية ولمعت مواهبه الخطية. متلمسًا خُطى والده الشيخ سالم بن محمد الرواحي كاتب الحضرة السلطانية في زنجبار.
ولأنّ زنجبار يومها كان لها صيتها الواسع وشهرتها التي طفقت الآفاق فهي مركز إشعاع علمي وحضاري يتواجد فيها الكثير من العلماء والفقهاء والأدباء والكتّاب والمثقفين فإنّ الساحة مُهيأة لظهور النوابغ إذا لقيت أفكارهم الرعاية والاهتمام.
ومع أنّه من أسرة ذات مجد راسخ وعزّ شامخ، ومن ميسوري الحال إلاّ أنّه لم يركن إلى الهدوء والراحة إيمانًا منه بأنّ في الحركة بركة، وأنّ الرزق يحتاج إلى السعي والنشور. فزاول النشاط التجاري لفترة وتنقل في مناطق وأقاليم مختلفة في شرق أفريقيا، فكانت له رحلاته إلى كينيا والبر التنزاني وحتى بروندي وغيرها، لكنها أعمال لم تنسيه يراعه ومحبرته وخطه وقرطاسه.
وعندما ظهرت ارهاصات التحركات الحزبية واختلاف وجهات النظر السياسية بين الفرقاء في زنجبار في أَوائل الستينيات من القرن الماضي، والتي انتهت بالانقلاب الدموي سنة ١٩٦٤م وانتهاء الحكم العماني، فقد حاول مع إخوته ومع الرجال الآخرين وعدد من أعضاء الجمعية العربية رأب الصدع ولمّ الشمل وتوحيد الكلمة، وتنبيه المتنافسين السياسيين بأنّ الاستقلال يجب التهيئة له والاستعداد له بشكل أكبر، والاحتياط لما قد يرافقه أو يعقبه من أحداث وأخطار. وتذكريهم بأنّ الإنجليز دُهاة في السياسة ولديهم نفس طويل، مشبهًا سياستهم وصبرهم لبلوغ مآربهم بقوله: (الانجليز مستعدون لحفر بئر الماء بواسطة الإبرة) كناية على صبرهم ومكرهم، وأنّه يجب أخذ كل الاحتياطات حتى لا تتأثر الحياة الزنجبارية بخروجهم.
خرج الشيخ من زنجبار بعد انقلاب 1964 تنقل من دولة إلى أخرى، وبالرغم من أنّ سُمعة عائلته قد سبقته، لكنه لم يتكلّ على هذا المجد، ولم يسعى لاستغلال هذا التاريخ، إنمّا اعتمد بعد الله على موهبته وقدراته. فعمل بجدٍ وإخلاص في السعودية لفترة من الزمن لقي فيها التقدير، وكان مثالاً للبذل والعطاء. ثم يمّم وجهه شطر البحرين التي وجد فيها الرعاية والترحيب من شيوخها، فاشتغل بإخلاص ووفاء لأنّ شيمته الوفاء.
وعندما أُتيحت لي فرصة لقاء الشيخ العزيز هلال الرواحي لمرّات عدة في منزله العامر بالعذيبة في مسقط، أخبرني كيف تأثر بطريقة كتابة والده وأسلوبه، وبمقدرته على تطويع الحروف وتشكيل الكلمات وسبك العبارات حتى أتقن فن الخط. وبعد بزوغ فجر النهضة المباركة عام 1970م عاد الشيخ الرواحي إلى عُمان، الوطن الكبير الذي استقبله واحتضنه حاله كالعائدين إلى جذورهم بعد فترة غياب. وحظي الشيخ هلال بفرصة العمل في البلاط السلطاني، ولقي التشجيع من المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد - طيّب اللّه ثراه - الذي كان يُحبذ قراءة الخُطب وإلقاء الكلمات بخط الشيخ هلال، فأجاد في وظيفته، وأبدع في خطه، وأبرز مواهبه فكان آية في التجلّي والإبداع، وتُعدُّ الطغرائية السلطانية للسلطان قابوس واحدة من هذه الإبداعات الخالدة. وكَتب ودوّن وخطَّ أيضًا الكثير من الرسائل والخُطب. ونقش العبارات في المساجد والقصور والطائرات السلطانية وغيرها التي لا تزال باقية وستظل تتناقلها الأجيال نظرًا لقيمتها الفكرية وروعتها الجمالية.
ومنذ نعومة أظفاره أدرك الشيخ هلال قيمة القلم وما يحمله من معاني، فلا عجب إنْ كان يتأمل قلمه ومحبرته ومداده كل صباح، يُخاطب نفسه ماذا يكتب؟ ولمن يكتب؟ وكيف سيظهر خطه؟ فهو يعلم أنّ أمانة القلم ليست بالهيّنة، فتحمل هذه الأمانة وحملها كما يحمل المقاتل الراية وهو يخوض الوطيس غير آبه بما يجري حوله من صخب وضجيج.
هكذا كان الشيخ حاملًا لراية القلم خفاقّة لم تنزل، فلم يتاجر بقلمه، ولم يزايد على خطه، لأنّ شرف المهنة عنده شيء مقدّس.
استوعب الشيخ مقولة (اقليدس) بأنّ “الخط هندسة روحانية، وإنْ ظهرت بآلة جسمانية” فترجم ذلك في حروفه وطريقة رسمها لتبدو وكأنها تبتسم في وجه قارئها، وبرزت بحلّة قشيبة تسبق فيها بشاشة وجهه قبل نقاط حرفه، وتنطق كلماته بما تحمله روحه من عبير الكلام ورحيق الفكر ورياحين الأدب.
إنّ المتأمل في لوحات الشيخ هلال الرواحي سيدخل في انسجام روحي مع حركاتها وأشكالها وأبعادها، وتناغم مع رسمها ونقشها وزخرفتها، وسيعي جيدّا بأنّ حروفها المنتصبة هي كنباتات بلون الزهر، وأنّ لمعانها ناصع كبريق التبر والذهب، وإنّ اقترب أكثر لاشتم من بين ثنايا سطورها العطر والريحان، وإن كانت تُمحى ومُزجت بالماء وأعطيت للقلوب العطشى فمذاقها حلو وشرابها صفو. وإن نظر إليها أكثر فهي بهجة للعين، ومناجاة للروح في سرِّ الحروف. وإن تمعنّ بشكل أعمق سيكتشف أنّ لوحاته الفنية ما هي إلاّ أشجار مثمرة بأروع الحِكَم والأقوال ومحمّلة بأجمل الألفاظ والأمثال، وسيقطف منها أفنان المعرفة وسيجني شهد الكلمة.
وعند مطالعتنا لكتابات الشيخ نستحضر قول ابن المقفّع بأن (القلم بريد القلب) ولأنّ حروفه وكلماته وعباراته نابعة من قلبه النقي الذي لم تتسرب إليه المطامع، ولأنّ كلماته خارجه من عقله الصافِي الذي لم تُخالطه المفاسد، فقد لامست القلوب قبل العقول، وشدّت إليها النفوس قبل العيون. وهكذا هم الأنقياء وحال الأصفياء يدخلون حياتنا بدون تذاكر ولا مقدمات، فمقدمات حضورهم البهيّ هي طلعتهم الزكيّة وأرواحهم التقيّة.
ولأنّ الشيخ هلال مناضل أبيّ، لم ينحني قلمه لمخلوق متكبّر، ولم ينسكب مداده في مدح شخص متغطرّس، ولو فعل ذلك لوجد العذر كونه لقيّ من الشقاء أثناء وبعد انقلاب زنجبار 1964م الكثير، إلاّ أنه بقيّ أمينًا على قلمه، مُخلصًا لحرفه، وفيّا لكلمته، صادقًا مع ربه.
وعندما يتفاخر البعض بشجاعة الفرسان وصهيل خيولهم تجوب الميدان، وقرع سيوفهم وهي تُسمع من بعيد، فإنّه علينا أنّ نعتز ونفاخر أكثر بشجاعة الشيخ الجليل هلال الرواحي في خوض غمار الكتابة، وبنزف يراعه وانسكاب مداده وحبره. وإذا كان ابن مُقلّة (محمد بن علي الذي توفى في سنة 328هج) إمام الخطّاطين العرب، ومُعلّم الخطاطين ابن البوّاب (علي بن هلال المتوفى سنة 423هج)، وياقوت الرومي (المتوفى سنة 698هج) المعروف بقِبلة الكُتّاب هم أساطين الخط وأعلامه؛ فإنّ الشيخ الرواحي لم يكن أقلّ منهم، بل هو امتداد لهذه المدرسة العربية الإسلامية الأصيلة في القلم والخط، وقبلها هو مدرسة في الإيمان والتقوى والأخلاق. المدرسة التي حافظ عليها الرواحي ورفع لواءها، بل انفرد عنهم بفنه الخطيّ، وأسس لمدرسة خطيّة عُمانيّة عربيّة، وسيحذو حذوه الراغبون في الدخول إلى عالم القلم والخط والكتابة. فهو بحق شيخ الخطّاطين في العصر الحديث. وعندما شرُفتُ بلقائه عدة مرات في عام ٢٠١٤م، وكان قد بلغ التسعين حولاً كانت لديه همّة الشباب وعزيمتهم، وكانت أصابع يده تداعب قلمه فيسكب على صفحات المجد تبرًا من المعاني ويصيغ على هامات الثُريا جواهر من الأفكار.
وبعد حياة مليئة بالأحداث والانجازات، مضمّخة بعبيق البذل والعطاءات، رحل الشيخ الجليل هلال الرواحي منتصف ليلة الأثنين 8/‏10/‏1443هـ الموافق 9/‏5/‏2022م. وستظل كتاباته شاهدة على موهبته وقدرته على تطويع القلم. وإنّ القلم عندما يكون في يد صاحبه الذي يعرف قدره ومقداره فإنّه يجود على الورق والقرطاس خطًا ولفظًا ومعنى، فتظهر تجليات أنواره الحرفية، وتبرز قبسات إشراقاته الخطيّة، وكما يُقال” اعطي القلم لكاتبه”. وكما قيل أيضًا:
يعيش الخط في القرطاس دهرًا..
وصاحبه تحت التراب رميمُ.
رحمه وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحُسن أولئك رفيقا. إنّا لله وإنّا إليه راجعون. الفقد كبير والمصاب جلل. وحُسن العزاء وصادق المواساة لأولاده النجباء وأسرته الكريمة، وحُسن العزاء لعُمان، وخالص العزاء للخطاطين وأرباب القلم.
والسلام عليه في العِليين إلى يومِ يُبعثون