إبراهيم بدوي:
تحدثنا في مقال الأسبوع الماضي عن دور صندوق النقد والبنك الدوليين، وإرشاداتهما التي أسهمت في دخول أعداد كبيرة من البشر في أركان المعمورة تحت خط الفقر، خصوصا في البلدان الناشئة والنامية، لدرجة أن ربع مليار من البشر يتجهون نحو الفقر المدقع، بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية المتوالية، ونصائح المؤسستين سالفتي الذكر، اللتين أضحى اللجوء لهما يتسم بإفقار الشعوب؛ لأنهما تضعان عدة شروط مجحفة، تفرض على الدول المعوزة، إصلاحات مريرة، تثقل كاهل المواطنين، وتحملهم ما لا يطيقونه، ليتحول التضخم إلى غول مخيف، يعصف بمدخرات الشعوب، ما يزيد من الأزمات الاقتصادية، وتهرب الاستثمارات من الدول التي أضحت لا تمتلك قوة شرائية جاذبة للمستثمرين، لتعيش الدول في متاهة من العوز، وتثقل الديون ومصاريف خدماتها ميزانها الاقتصادي، في حين أن المدخولات تقل بفعل هروب المستثمرين، لنجد أنفسنا ندور في متاهة، لا نعرف كيف أو متى نخرج منها؟ متاهة تستنزف ثروات كبيرة تمتلكها تلك الشعوب، تضيع مقابل الديون و(نصائح) مانحيها، التي ترهن القروض بإجراءات تفقر أكثر ما تغني.
ولعل المخجل في الأمر أن تلك المؤسستين الدوليتين أنشئتا في الأساس لتكونا أداة تسمح للدول النامية والناشئة بالانطلاق نحو رحابة الاقتصاد المتقدم، الذي يشكل حجر الزاوية في إقامة دول رشيدة، قادرة على إقامة بنية أساسية عامة ومتخصصة جاذبة للاستثمار، وقادرة أيضا على الإنفاق على القطاعات التنموية ذات البُعد الاجتماعي مثل التعليم والصحة، والأجهزة الأمنية، التي يسهم الارتفاع في مؤشراتها إلى مزيد من جذب الاستثمارات، التي أضحت الوسيلة الوحيدة الباقية للدولة، لجذب استثماراتها، بعد أن خرجت الأمور من بين يدي الدول، وتحكم الاقتصاد العولمي الحر المتوحش، في مقادير الشعوب، لدرجة أن المؤسسات الاقتصادية العابرة للقارات، أضحت أقوى من معظم دول العالم، وتضع السياسات، وأحيانا تحيك المؤامرات، لتعظم أرباحها الاستثمارية، ما أضر بالبشر وبيئتهم، وقلص دور الحكومات، وقصر يديها في محاولة إصلاح، قرارات سابقة أدخلتهم في تلك المنظومة، وتحولت الدول من حارس لمصالح الشعوب لحامٍ لمكاسب هؤلاء. وتغيرت مفاهيم سياسية وحولت الحكومات وأذرعها من أن تكون مسيطرة ومتحكمة، لمجرد دولة حارسة، راضخة لـ(النصائح)، غير قادرة على الانفكاك مما تجلبه تلك (النصائح) من تداعيات مؤلمة على الأوطان والمواطنين، وبدلا من أن توجه تلك القروض، إلى مقاصدها في بناء أسس تنهض بالأمم، الاتجاه نحو بناء منظومات صحية وتعليمية وأمنية، تمتلك بنية أساسية، تشكل قاعدة لبناء الأوطان، نجدها تصرف على فوائد وخدمات الدين، ما يزيد من عجز الموازنة، الذي أضحى الشيطان الذي يسمن غول التضخم، ليأكل الأخضر واليابس من مقدرات الوطن والمواطن، لدرجة دفعت مؤسسات تنتمي لمعسكر الاقتصاد الحر إلى المناداة بتقليم أظافر هذا الغول، وظهرت مصطلحات الاقتصاد الأزرق القائم على استدامة الاستفادة من الموارد البحرية، أو الاقتصاد الأخضر الذي يسعى لإيجاد مصادر وقود مستدام يحمي البيئة.
والجديد الذي ظهر مؤخرا باللون البنفسجي والذي يتميز بطبيعته الشمولية، ويستند إلى الثقافة النابعة من البُعد الإنساني، ويضفي هذا البُعد على العولمة والاقتصاد، ويستخدم الثقافة المحلية كمساعد في ترسيخ أبعاد التنمية المستدامة، ويرسخ المسؤولية المجتمعية للشركات، وكل تلك الألوان المقترحة قادرة على الأقل على تحجيم والتقليل من أضرار وجموح الاقتصاد الحر الذي يقود البشرية منذ انطلاق الثورة الصناعية، والذي تكلل بالعولمة، لكن لكي تنجح تلك التوجُّهات الجديدة، لا بُدَّ أن تفرض، وتسعى الدول النامية والناشئة، إلى تعظيم الاستفادة منها، وعدم الانقياد وراء (النصائح)، التي يفرضها أصحاب المصالح، وأن يتمسكوا بمقدراتهم التي أمَّنتهم عليها شعوبهم، ويسعون لتلك الحلول الجديدة وإن كانت صعبة، ملتحفين بصناديق إنمائية منهم وإليهم، والبُعد عن الجهات التي تأكدنا جميعا، أنها تفرض مصالح الكبار مؤسسات وحكومات، دون النظر إلى دور ما يفعلونه في انهيار السلام العالمي، فالفقراء لن يصمتون كثيرا، خصوصا في ظل الظروف الحالية، فالساعون للاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني، عليهم دوما معالجة الفقر والعمل على بناء طبقة متوسطة عريضة ومتنوعة، تكون حماية ووقاية من تداعيات الفقر واتساعه.