نجوى عبداللطيف جناحي:
مَنْ منَّا يدَّعي أنَّه لا يحتاج لمساعدة الآخرين؟ فلقد خلقنا الله تعالى محتاجين لبعضنا البعض، فنتعاون ويخدم كل منَّا الآخر، لذا خلقنا الله متفاوتين في القدرات والإمكانات. فهذا قد حباه الله بقوة بدنية فيساعد من ضعف بدنه أو من لم يملك هذه القوة فيحمل عنه الأثقال كحقائب السفر أو أكياس التسوق أو غيرها، وذاك حباه الله بعقلية حسابية مالية فيساعد الآخرين الذين لا يملكون هذه القدرة في شؤونهم المالية، وذاك الشاب الذي يتقن استخدام تطبيقات الحاسوب فيساعد من لا يملك هذه المهارة في قضاء حاجاته كأن يدفع الفواتير إلكترونيا أو يتسوق بتطبيقات الهاتف، وهكذا يتبادل أفراد المجتمع الخدمات بعفوية وتلقائية. وكل منَّا يساعد الآخر.
نعم، فتبادل المنفعة بين بعضنا البعض فطرة أصيلة في الناس، فقد قالوا قديما من يفعل خيرا يلقى خيرا، ولا أدري حقيقةً أهي مقولة تقرر واقعا اجتماعيا؟ أم أنها نصيحة وحث الناس على رد الجميل لفاعل الخير؟ وعموما فإن مساعدة الناس لبعضهم البعض تأتي بعفوية، وبدون حساب، فمَنْ يقدِّم مساعدة لآخر لا يطالبه بمساعدة أخرى، حتى قال البعض (افعل الخير وارْمِه في البحر) ويقصد الناس أنك عندما تساعد الآخرين لا تذكرهم وتعيرهم بهذه المساعدة ولا تطالبهم بمساعدة أخرى كرد جميل، بل عليك أن تنسى أنك قمت بهذا العمل الطيب وتطلب الأجر من الله. ولكن الناس ـ بطبيعة الحال ـ سيقدمون لك العون عند حاجتك بكل تلقائية وعفوية ودون أن تطالبهم. فمن خصائص المجتمعات البشرية رد الجميل، ومن سماتهم التكاتف والترابط.
ولكن ظهرت في الآونة الأخيرة في بعض المجتمعات آليات ومنهجيات تنظم تبادل المنفعة والتعاون بين الناس وتقننه، فيروي أحدهم أن
طالبا يدرس في إحدى جامعات سويسرا كان قد استأجر غرفة في مسكن امرأة متقاعدة تبلغ من العمر سبعة وستين عاما، للسكن فيها، تلك المرأة تعيش وحيدة في مسكنها بعد أن توفي زوجها ورحل أبناؤها للعمل في مناطق بعيدة. وعلى الرغم من أن تلك المرأة متقاعدة، لفت نظره أنها تخرج يومين في الأسبوع للعمل، فظن أنها تعمل في مدرسة ما بالنظام الجزئي مقابل مكافأة خاصة، وأنها كانت تعمل كمعلمة قبل تقاعدها، فدفعه الفضول يوما ما لأن يسألها عن المكان الذي تعمل فيه؟ فقالت أنا أقوم برعاية رجل يبلغ من العمر سبعة وثمانين عاما. فسألها: ومن يدفع لك أجر رعايته؟ هل الرجل نفسه؟ أم دار المسنين؟ أجابت: أنا لا أتقاضى مالا بل أتقاضى وقتا، لم يفهم مقصدها!! فكيف تتقاضى الوقت مقابل خدمة تقدمها؟! استطردت في حديثها لتوضح له أن هناك مركزا يسمى بنك الوقت حيث يعرض في موقعه الإلكتروني خدمات يحتاجها الناس مثل طلب رعاية صحية، أو تصليح أجهزة حاسوب أو خدمة توصيل أو أي نوع من أنواع المساعدة، ويبادر البعض بتقديم هذه الخدمة تطوعا، في حين يقوم البنك باحتساب نقاط لمن يتطوع لتقديم الخدمة مقابل عدد الساعات التي تطوع بها ونوع الخدمة المقدمة، وعندما يحتاج الشخص مساعدة يقدم للبنك طلبا للمساعدة، فيرسل له البنك شخصا متطوعا ممن اشتركوا في البنك ليخدمه ويخصم الوقت من حسابه.. ويقدم المتطوع تلك الخدمات للمحتاج إما في البيت أو في المستشفى كأن يرافق المحتاج للتسوق أو لمساعدته في تنظيف منزله أو تنسيق حديقة المنزل، أو تشغيل جهاز حاسوب، أو رعايته أثناء إقامته في المستشفى.
ويواصل الراوي قصة هذه المرأة فيقول: إنه في أحد الأيام سقطت تلك المرأة أثناء تنظيفها لنافذة غرفتها وكسر كاحل قدمها واضطرت لملازمة السرير عدة أيام، ولا يوجد معها شخص في المنزل يعينها على توفير احتياجاتها، فقرر الطالب أن يقدم إجازة اضطرارية للجلوس بقربها ومساعدتها، لكنها رفضت وقالت له: إنها لا تحتاج مساعدته، فقد قدمت على طلب سحب نقاط من رصيدها في البنك بطلب مساعدة للرعاية، وأن المعنيين في بنك الوقت سيرسلون لها متطوعا يساعدها ويرعاها. وفعلا حضر متطوع لمساعدتها حيث كان يرعاها ويتحدث معها ويسليها، ويرافقها ويقضي لها حاجاتها من السوق. وينظف المنزل، ويغسل ملابسها، كما أرسل لها البنك ممرضة عندما احتاجت لذلك.. ولكن بعد أن تعافت من الكسر عادت للعمل مرتين في الأسبوع لتعويض ما خسرته من وقت في البنك...
باختصار، ذلك البنك وجد لتبادل أو مقايضة خدمات اجتماعية تطوعية بدلا من دفع الأموال مقابل الحصول على خدمات. والحقيقة أن الناس، لا سيما المتقاعدين منهم، يتعمدون تضييع الوقت على كراسي المقاهي أو في المجالس وربما في الجلوس أمام شاشات التلفاز ساعات طويلة، فهم يعانون من الفراغ، وعدم إحساسهم بتحمل المسؤولية وعدم حاجة الناس لهم، ولعل فكرة بنك الوقت تعطي الفرصة لاستثمار طاقات وخبرات المتقاعدين وتشعرهم بأهميتهم في المجتمع، وتعزز لديهم الشعور بالأمن والأمان، حيث يطمئنون لحصولهم على المساعدة عند الحاجة... ودمتم أبناء قومي سالمين.