د. رجب بن علي العويسي
عندما بدأت القيادة العامة لشرطة عُمان السُّلطانية قبل عقد ونيف من الزمن بتنفيذ رؤيتها الطموحة في تعزيز وجود جهاز شُرطي عصري متكامل متطوِّر قادر على رسم ملامح المرحلة والتعبير بمهنية وواقعية عن متطلباتها والوفاء باحتياجاتها، ويمتلك منتسبوه الكفاءة والمهنية في استيعاب مستجدات العمل الشُّرطي والتحوُّلات الحاصلة فيه وطبيعة المهام الموكلة إليهم، كان هذا الطموح قد اعتمد منهج الاستباقية والحدس والتنبؤ وفق مؤشرات واضحة بالتحوُّلات القادمة، سواء على مستوى المنظومة الوطنية أو الشُّرطية والتطور الحاصل في مهام الشرطة، وهو ما منح رؤية العمل الشُّرطي مزيدا من الواقعية والمهنية التي أفرزت اليوم نماذج عملية لهذا التوجُّه وتناغمها مع توجُّهات المرحلة.
لقد انطلقت هذه التحوُّلات التي سطَّرتها ملحمة البناء والتطوير المنهجي من اهتمام نوعي بتجسيد مفهوم الأمن والحياة في منظومة العمل الشُّرطي ليست كونها اختصاصا شُرطيا أصيلا فحسب، بل وعبر استشعار منظومة الأمن في مكوِّنات الحياة العامة في المجتمع العُماني، واستشعار القيادة العامة للشُّرطة لأهمية تناغم الجهد الشُّرطي وتكيفه مع المتغيرات والظروف والأحداث واندماجه مع أولويات المواطن في كل ما من شأنه تعزيز حضوره في كل حلقات البناء الوطني، مواطن منتج صالح مخلص، غيور على وطنه، وفيّ لسلطانه، ولعل تحدِّيات التشغيل الناتجة عن زيادة أفواج الخريجين من مؤسسات التعليم من حمَلة الدبلوم العام والمتوسط والمؤهلات الجامعية، وفجوة العرض والطلب لهذه المخرجات في الجهاز الإداري للدولة والقطاع الخاص، أعادت رسم ملامح التحوُّل الذي انتهجته شُرطة عُمان السُّلطانية في البنية الأساسية المتمثلة في الغاية من إنشاء المراكز والمباني الشُّرطية في كافة محافظة السلطنة، وتزويدها بالأجهزة والمعدات المتطورة، وعبر استيعاب الشباب العُماني من خلال جهودها في توظيف آلاف المواطنين للعمل بجهاز الشُّرطة وتأهيلهم كُلٍّ في مجال اختصاصه.
فإن رؤية التكامل التي تبنَّتها شُرطة عُمان السُّلطانية فيما تحقق من تحوُّل غير مسبوق في جهاز الشُّرطة في عدد المباني والمنشآت الشُّرطية التي تم إنشاؤها في العقد الأخير، إنما كان يقرأ في استباقية المستقبل ما تحتاجه هذه المنشآت من موارد بشرية، وكانت تنظر إلى ما هو أبعد من المبنى وهو استيعاب جهاز الشُّرطة للشباب العُماني، وهي بحاجة إلى كفاءات بشرية مؤهلة ومعدة إعدادا متكاملا ومدربة على أفضل البرامج والآليات والوسائل التي ترتبط بعمل الشُّرطي في البر والبحر والجو، الأمر الذي عزز من دور شُرطة عُمان السُّلطانية في إعطاء ملف التوظيف أهميته الاستراتيجية في مسيرة التطوير والتحديث، واستطاعت هذه المنهجية أن تؤسس لمسار التكامل بين العرض والطلب من جهة وعمليات التدريب والتعليم والإعداد التي تتلقاها والتي ظلت على مستويات عالية من الجودة والأهمية ومنحتها رؤية بناء الموارد البشرية مساحة واسعة من الاهتمام، الأمر الذي انعكس إيجابا على مستوى الروح المعنوية العالية لمنتسبي شُرطة عُمان السُّلطانية في ظل ما يتلقونه من فرص تدريبية وتعليمية متنوعة، ما عزز من مستوى الإرادة لديهم والطموح الذي أوجد فيهم مساحات أوسع للمبادرة والتجديد والتطوير، وفتح المجال لهم لمزيد من المنافسة والإتقان، في ظل التدريب العملي والتطوير والتأهيل الأكاديمي والدراسي، ما عزز من صقل قدراتهم وبناء طموحاتهم ومنحهم فرصا أكبر للعطاء بلا حدود والعمل بلا توقف وأسس فيهم روح التحدِّي والبحث والإنجاز، وهو ما أثبته منتسبو شُرطة عُمان السُّلطانية من كفاءة والتزام بالواجب الشُّرطي في التعاطي مع كُلِّ الأحداث الوطنية بدون استثناء.
لقد كان لاتساع رؤية العمل نحو المستقبل والاستشعار المتجدد الناتج عن تشعب العمل الشُّرطي واتساعه وعمقه وزيادة مستوى التعقيد في ظل تعقد الظروف والمواقف التي يتعامل معها الشُّرطي، وبشكل خاص ما يتعلق منها بالجرائم، وفي ظل ارتباطه بالمجتمع واندماجه معه ودوره المحوري في إدارة الحالات الطارئة والحضور النوعي للشُّرطة في جائحة كورونا وغيرها، مدخل لإعادة هيكلة البنية الأساسية لجهاز الشُّرطة، والتي بدأت من إعادة إنتاج البنية الصلبة ممثلة في المباني والمنشآت الشُّرطية والمرافق والتجهيزات والمعدات والآليات التي تساعد رجل الشُّرطة في أداء مهمته، والتي تنوعت بين قيادات جغرافية للشُّرطة بالمحافظات ومراكز شُرطية بالولايات ومبانٍ للخدمات ووحدات للمهام الخاصة ومراكز التوقيف وغيرها، مراعية أعلى المواصفات التي تتناسب وحجم التطور في العمل الشُّرطي والتجهيزات التي تحتاجها البيئات الأمنية الشُّرطية والتي ارتبطت بتحوُّلات نوعية في الأداء الشُّرطي وإنتاجية منتسبي شُرطة عُمان السُّلطانية وكفاءتهم الأدائية، وهو نتاج لعمليات التأهيل والتعليم والتدريب والصقل المستمر لمنتسبي الشرطة مراعية في ذلك طبيعة المهام الشرطية وما اتسمت به من اتساع وعمق وتخصصية وارتباطها بالأبعاد الإنسانية والاجتماعية والأمنية والأخلاقية والوقائية والعلاجية التي تحققها في حفظ الأمن وتحقيق النظام، وترسيخ منظومة القِيَم والمبادئ الوطنية والحدِّ من الجرائم، وتقديم الدعم للمواطن والمقيم في ظل الأزمات وحالات الطوارئ والحالات المناخية وغيرها.
وفي الوقت الذي ركزت فيه القيادة العامة للشُّرطة على تطوير البنية الأساسية للمنشأة الشُّرطية، أدركت أن تشغيل هذه المنشآت وإحداث الحياة والتجديد فيها، وتعزيز كفاءة الممارسة الشُّرطية، يتطلب بناء المورد البشري الكفؤ وتمكينه وتعزيز حضوره النوعي في كلِّ محطات البناء والتطوير والتحديث، لذلك وضعت أهمية كبرى للبنية الناعمة وعبر تعزيز مفهوم جودة البيئة التشريعية والتحفيزية والإدارية والترويحية الداعمة للموارد البشرية الشُّرطية، وأوجدت المؤسسات والبرامج التعليمة والتدريبية والتأهيلية والتخصصية والتثقيفية والتنافسية التي تسهم في صقل مهارة رجل الشُّرطة في مختلف الرتب والمسميات الوظيفية، حيث أولت شُرطة عُمان السُّلطانية جانب التدريب والتأهيل بالغ الاهتمام فأكاديمية السُّلطان قابوس لعلوم الشُّرطة صرح شُرطي شامخ بعطائه، راقٍ بإنجازاته، تصهر فيه طاقات الرجال الساهرين من أجل أمن عُمان ممتزجة بشغف المعرفة وصدق المنهج وسُمو الفكرة وجودة التدريب تُعد أحد صروح التدريب بالشُّرطة، حيث يلتحق المنتسبون من حمَلة المؤهلات الجامعية بأكاديمية السُّلطان قابوس لعلوم الشُّرطة من خلال تلقِّي التدريب المناسب بكلية الشُّرطة، والمنتسبون الجدد من حمَلة الدبلوم العام بالأكاديمية من خلال تلقِّي التدريب المناسب بمعهد الشُّرطة المستجدين، في حين يتم تدريب الملتحقات بمعهد الشُّرطة النسائية في بيئة تدريب نموذجية في المجال العسكري والأكاديمي والقانوني المعززة بالتطبيقات العملية بهدف تأهيل المنتسبين للقيام بالمهام الشُّرطية الموكلة إليهم، في الوقت الذي يُمثِّل فيه معهد الضباط محطة تدريبية أخرى أكثر إبهارا واحترافية في لغة التدريب الشُّرطي؛ لتأهيل ضباط شُرطة عُمان السُّلطانية ورفع كفاءتهم وتزويدهم بالمعارف والمهارات الوظيفية وفقًا لمتطلبات الأداء الوظيفي، للقيام بوظائفهم الحالية، أو لتولِّي وظائف وأدوار قيادية مستقبلية.
وبالتالي عكس التقدم الذي شهدته شُرطة عُمان السُّلطانية في مختلف المجالات الخدمية والأمنية والإنشائية نجاح رؤية التخطيط والعمل المبتكر الذي تبنَّته القيادة العامة للشُّرطة والمساحة من التغيير والتمكين التي عززتها في قادة القيادات الجغرافية والوحدات والإدارات العامة، بما مكّنها من خلق روح التحوُّل في مواكبة آليات العمل الشُّرطي واستراتيجياته للتطورات والمتغيرات والظواهر الأمنية المستجدة التي يشهدها عالمنا المعاصر، والتصدي للجريمة بأشكالها المختلفة وحماية أفراد المجتمع من تأثيراتها السلبية، بالإضافة إلى ما اتخذته من توجُّهات في التقليل من الحوادث المرورية والخسائر المترتبة عليها، لتصنع اليوم في ترسيخ الحس والهاجس الأمني وتعزيز البحوث الأمنية والأكاديمية ذات الصلة، محطة جديدة تضاف إلى قائمة الإنجازات الشُّرطية من أجل عُمان وأبنائها، مسخِّرة جميع الإمكانات البشرية والمادية لتحقيق ذلك، وبالتالي كان لهذا التوجُّه الشُّرطي الواعي لمعطيات الحاضر والمستقبل والذي جسد رؤية عُمان 2040 قلبا وقالبا، سواء في المحتوى والأسلوب والآلية أو في نتاج إعادة الهيكلة التي بدأت بها شُرطة عُمان السُّلطانية في فترة متقدمة، أثره الإيجابي في التقدير الاجتماعي الذي تحظى به جهود شُرطة عُمان السُّلطانية ومساعيها في احتواء المواطن ليشارك بدوره في تحقيق أهداف الشُّرطة، وشعوره بالمنجز الشُّرطي المقدم له واعترافه به، بما ينعكس على ولائه وانتمائه ومواطنته، في ظل بناء مناخات أقوى للشراكة والإيجابية وتعزيز الثقة، وترسيخ سلوك المواطنة الشُّرطية وقِيَم الولاء والانتماء الوطني.
أخيرا، تبقى جهود القيادة العامة لشُرطة عُمان السُّلطانية في استيعاب الشباب العُماني للانخراط في العمل الشُّرطي محطة تحوُّل لقراءة المنجز الشُّرطي بصورة أكثر عمقا واتساعا واستدامة، لم تمنعها في سبيل مواصلة مشوار التوظيف أحلك الظروف وأصعبها؛ لإدراكها أن الحياة الشُّرطية مسيرة متجددة في نهضة الأوطان وصناعة الإنسان الواعي، وبناء المجتمعات وتحقيق التنمية، كونها حاضنة الأمن الأمان والعدالة والوئام، بما يضع المواطن والمقيم والشباب الواعد أمام فهم واعٍ لرسالة الشُّرطة، وموجهات التطوير التي بني عليها المنجز الشُّرطي، ونستقرئ في منجزنا الوطني أينما كان موقعه، حضور شباب هذا الوطن فيه هدفا وغاية، ونهج عمل ومسيرة نضال، للقناعة بأن الاستثمار في المورد البشري هو خير من يحفظ لهذه الأرض قيمتها، ويبني فيها مشروع عُمان الحضاري، لينطلق به إلى آفاق أرحب يبسط للجميع خيره وينثر بره وفضله، يبعث في إنسانه روح الولاء والانتماء لله والوطن وجلالة السُّلطان.