محمود عدلي الشريف:
قرائي الكرام .. وما أود أن أهديه لكم اليوم، قصة غريبة وجميلة وعجيبة في نفس الوقت، لها من العبر والعظة ما يثقل حمله ويكثر عدده وينفس مثيله ويندر شبهه، على الرغم من أن هذا الصحابي الجليل له من القصص القليل إلا أنني أردت أن أذكر نفسي وأذكّركم بقصته، لنأخذ من خلالها التغيير الحياتي للأفضل والأكمل، فهذا الصحابي الجليل عرف بـ(ذي الجوشن) ـ كما ذكر كتاب السير والحديث، يقول صاحب (جامع الأصول 12/ 376):(ذو الجَوْشَن اختلف في اسمه، فقيل: أبو شَمِر شُرَحْبِيل بن الأعور بن عمرو بن معاوية بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعَة العامري الضِّبابي من بني الضباب بن كلاب، ويقال: اسمه أَوْس بن الأعور، والأول أكثرـ وهو ما وجدته في معظم الكتب).
وهنا لنا تستوقفنا وقفتان، إحداهما: لماذا سمي بذي الجوشن؟ والإجابة عنها ذكرها غير واحد من العلماء ومنهم صاحب (الروض الأنف، ت: الوكيل 3/ 99):(قال أبو السعادات ابن الأثير: يقال إنه لقب ذا الجوشن، لأنه دخل على كسرى، فأعطاه جوشنا، فلبسه فكان أول عربي لبسه)، ويقول صاحب (أسد الغابة، ط: الفكر 2/ 19):(يقول الزبيدي: وإنما لقب به لأنه أول عربي لبسه، أو لأنه كان نائي الصدر، أو لأن كسرى أعطاه جوشنا. ومعنى الجوشن: الدرع من الحديد)، وأما الثانية: فلماذا سمي ضبابي؟ والإجابة ذكرها صاحب (بغية الطلب في تاريخ حلب 1/ 549) قال:(يرجع نسبه إلى ضب وضب هذا من ولد معاوية بن كلاب، وهم الضباب: زهير، وحصن، وحصين، وحمل، ومالك، وأمهم الأحمسية، هؤلاء البطون الخمسيعرفون بأمهم، وربيعة، وضب وضبيب، وحيين، وجني، وزفر، والأعور، هذه السبع بطون أمهم السلولية وبها يعرفون، وهذه الاسماء تعرف بالضباب، ـ وضِبَاب: بكسر الضاد المعجمة، وتخفيف الباء الموحدة الأولى، ومنهم آل جوشن، واسمه شرحبيل، وإنما سمي جوشن لأنه أول عربي لبس الجوشن من بني كلاب في الجاهلية. ومنهم بنو الأشهب ـ قبيلة ذات منعة وعددـ، ومنهم بنو منة بطن لطيف)،وأكد ذلك صاحب (مختصر تاريخ دمشق 10/ 332) حيث قال: وإنما نسب الضبابي لأنه أحد ولد عمرو بن معاوية يقال له: ضب، فنسب إلى ذلك)،وهو صحابي معروف، وكان شاعراً مُحْسناً ماهراً مَطْبُوعًا، وَلَهُ أَشْعَارٌ حِسَانٌ يَرْثِي بِهَا أَخَاهُ الصُّمَيْلَ.
وأعجب ما كان سببًا في اختياري لعرض قصته على حضراتكم اليوم ما جاء في كثير من كتب الحديث والسير عن قصة تأخر إسلامه ومنها ما رواه صاحب (جامع المسانيد والسنن 2/ 671):(روى ابن أبي إسحاق الهمداني، عن أبيه، عن جده، عن ذي الجوشن، قال: أتيتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن فرغ من أهل بدرٍ بابن فرسٍ لي ـ يقال لها أي للفرس: القرحاءـ، فقلتُ: يارسول الله جئتُك بابن القرحاء لتتخذهُ. فقالـ صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لي فيه، ولكن إن شئت أن أقيضك ـ أي أعطيك بالمقايضة وهي معرفة مبادلة شيء بشيء،أي أبدلك به وأعوضك عنه، وقد قاضه يقيضه وقايضه مقايضة في البيع: إذا أعطاه سلعة وأخذ عوضها سلعة ـ به المختارة من دُرُوع بدرٍ فعلتُ؟ قلتُ: ما كنتُ لأقيضهُ اليوم بغُرة. قال: فلا حاجةَ لي فيه.ثم قال: يا ذا الجوشن ألا تُسلُم فتكون من أول هذا الأمر؟ قلتُ: لا. قال: ولِمَ؟ قلتُ: إني رأيتُ قومك قد ولعوا بك. قال: فكيف بلغك عن مصارعهم ببدر؟" قال: قلتُ: قد بلغني. قال: فإنا نُهدي لك. قلتُ: إن تغلب على الكعبة وتقطنها. قال: لعلك إن عشت أن ترى ذلك. ثم قال: يابلال خُذْ حقبة الرجل فزودهُ من العجوة، فلما أدبرتُ قال: إنه من خيرفرسان بني عامر. قال: فوالله إني لبأهلي بالفوز ـ يعني يجلس في بيت أهله بمكان يسمى الفوزـ إذ أقبل راكب، فقلتُ: من أين؟ قال: من مكة. قلتُ: ما فعل الناس؟ قال: قد غلب عليها محمدـ صلى الله عليه وسلم، قال: قلتُ هبلتنيأمي ـ هبلتني: يقال هبلته أمه تهبله هبلا، بالتحريك: أي ثكلته وهي كلمة تفيد الندم على ما فاته ـ فوالله أسلم ـ بضم الهمزةـ يومئذٍ ثم أسأله الحيرة لأقطعنيها)(رواهُ أبو داود في الجهاد،والنهاية 4/132)، وفي رواية صاحب (علو الهمة، ص: 263): دعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذا الجوشن الضبابي إلى الإسلام بعد بدر فقال له:هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك كذبوك، وأخرجوك، وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك، فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الِإسلام حين دعاه إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه لم يندم فقط بل إن الندم وصل به إلى الدرجة الحسية حتى أنه يتوجع من شدة ألم الندم والحسرة على تأخره عن الإسلام واللحاق بركب السابق فيه، ومن ينبغي أن نعلم أن المؤمن الذي يعمر قلبه بالإيمان لا يتصور أن يكون إلا متحركا ومحركا نشطا ومنشطا، أمّا المتباطئ الذي يعد بالالتحاق بعدما تظهر بوادر النجاح، فإنما يعد وعد الضعاف، كما يقول الشاعر:(صاح ما الحر من يثور على الـظلم وقد ثارت لحقها الأقوام ... إنما الحر من يسير إلى الـظلم فيقصمه والأنام نيام).
فلا ينبغي أن يؤجل الإنسان الانضواء تحت لواء الحق، وإلا فإنه يعض إصبع الندم، فينبغي أن يحرص الإنسان دائمًا على عنصر الريادة، وأن يكون في أوائل الناس، خاصة في وقت المحنة ووقت الشدة، ويجيب داعي الله سبحانه وتعالى بلا تلكؤ ولا تلعثم ولا تردد، فهذا هو شأن المؤمنين، لكن الإنسان الذي يتردد في قبول الدعوة يكشف عن ضعف في همته، والشخص عالي الهمة لا يبالي أن ينضوي إلى لواء الحق، حتى ولو كان أهله مبتلين، ومطاردين ومستضعفين، ولكن بعض الناس لا يكاد يتحرك قلبه تعاطفاً مع أهل الدين ومع أهل ولاية الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف نزهد في مثل هذا العمل الذي هو تبليغ الدين ودعوة الناس إلى الحق والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: نضر الله امرأً سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع؟! فمن يفعل ذلك يدخل تحت دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم،وروي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول في دعائه:(اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)، يعني: مهتدين في أنفسنا هداة لغيرنا، أي: اجعل نفعنا متعديا.(سلسلة علو الهمة ـ المقدم 9/ 10)، ويقول صاحب (فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب (7/ 303):(إن التردد يفوِّت على العبد الفوز بالخيرات، ويبقيه في مكانه في الوقت الذي يسير فيه الركب فيصل الحازم إلى مبتغاه، وصدق القائل:إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا)،وقال آخر:(ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفرٌ ولا إخفاق)،فلا تتوقف مترددا أو قلقا، ولا تضيع نفسك بالشكوك التي لا تلد إلا الشكوك،فلا ينبغي لمن أراد الارتقاء بهمته أن يرتمي في أحضان الغافلين وإلا عضّ أسنة الندم.
ولهذا أنقذ ذو الجوشن نفسه فسارع إلى رسول الله قَالُوا:(وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْحُصَيْنُ بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَقِيلٍ وَذُو الْجَوْشَنِ الضِّبَابِيُّ فَأَسْلَمَا وَتَحَوَّلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَنَزَلَهَا)(الطبقات الكبرى، ط: العلمية 1/ 230)، وفي (تاريخ دمشق لابن عساكر 23/ 188):(قال في تسمية من نزل الكوفة من الصحابة ذي الجوشن)، وفي (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/ 269):(أن أول من حمى"ضرية" في الإسلام "عمر" حماها، لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية. وضرية في وسطها،و"ضرية" هذه من مياه "الضباب" في الجاهلية، وكانت لذي الجوشن الضبابي)وكذا في (الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 467)، وفي زمن عثمان بن عفان ولّاه عاملًا على بلد تسمى جرجان(كما في التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان،ص: 152)، وذكر صاحب (تهذيب الكمال في أسماء الرجال 8/ 525) أنه ـ رضي الله عنه: رَوَى عَن النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاديثًا،ورَوَى عَنه: أبو إسحاق السبيعي، وأَبُو سيف التغلبي. وروى له أَبُو داود حديثا واحدا. رضي الله عنه وعن صحابة رسول الله أجمعين.
[email protected]*