د جمال عبد العزيز أحمد:
..ولعل الباء في: (بالكتاب) تفيض دلالة، وتتسع معنًى لبيان جهودهم، فلم يقل:(يَمْسِكُونَ الكتاب)، وعَدَّاهُ بنفسه، وإن جاز لغةً، ونحوًا، لكنه جاء بالباء ليؤكد، ويرسِّخ هذا المفهوم، فكـأنهم يُعْطُونَ الكتابَ بكل جلاله، وكمال تعاليمه إياهم سهلًا مستساغًا، وفي أيديهم، ويجعلونهم يَمْسِكُونَ به، مساعدين إياهم، ومقوِّيهم، ومُعِينِيهِم، لكنهم في الوقت نفسه: (وأقاموا الصلاة) أيْ: لم ينسوا أنفسَهم، فمالِكُ الشيء يعطيه، ومن ثَمَّ فهم مُمَسِّكونَ غيرَهم؛ لأنهم يَمْسِكُونَهُ أصلًا، ومعهم الزاد الكبير:(وأقاموا الصلاة)، فاستحقوا هذا النعتَ الربانيَّ الكبير، والجليل:(إنا لا نضيع أجر المصلحين)، ولم يقل:(أجر الصالحين)، فالمُصلح مَنِ انتهى من صلاحه، وأمسى مصلحا، وداعية مفوَّهًا، فانتقل من الصلاح إلى الإصلاح، ومن الأخذ إلى العطاء، وفعل (المُصْلِحِينَ) هو الفعل (أصلح) الرباعي، وأما (الصالح) فهو من الفعل الثلاثي (صلح)، وفَرْقٌ ما ين السماء والأرض بين (الصلاح والإصلاح)، وبين الفعلين:(صلح) و(أصلح)، بين الرجل الصالح والرجل المصلح، بين الرجل العادي الطيب، والعلامة الداعية الجليل، الفاهم، المدرك، المصلح، فاستحق أمثال هؤلاء أن يوصفوا بأنهم (مصلحون)، (مُمَسِّكُونَ) غيرَهم بالكتاب الكريم، وتعاليمه، فقد اتضح وجه البلاغة في ضَمِّ، أول الفعل، وضَمِّ أول الاسم: (يُمَسِّكون) (المُصلحين)، وما حملتْه تلك الضمة من كثير الجهد، وصادق العمل، وجليل الاجتهاد، وشرف المقصد، ونبل الغاية، وسعة البصيرة ونور البصر، وكمال الفهم، وحسن الإدراك.
ونتوقف هنا أمام الحركة ليس بوصفها حركة وإنما ما أعطته من مخزون ديني كبير، وقيم كثار، ودلالات غزار، لا يقف عندها إلا من تعمق في اللغة، وخبر أساليبها، وفقه تراكيبها، وعرف أن الحركة قد تؤثر إيمانا وكفرا، تحريما وتحليلا، جوازا ومنعا، وغيرها من كبريات الأحكام، وعظائم الحكم، ونفائس المعاني، ودرر الدلالات، وكمال القيم، وجلال المقاصد، وشريف الغايات.
قال الله تعالى:(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (الأعراف ـ 88).
الناظر المدقق هنا يجد فرقًا في النطق، والدلالة بين الفعلين(لَنُخْرِجَنَّكَ)، و(لَتَعُودُنَّ)، فالأول بضم النون الأولى في أول الفعل، وسكون الخاء، وكسر الراء، وفتح الجيم، وتشديد نون التوكيد مفتوحةً، بوزن (لَنُفْعِلَنَّكَ)، والفعل الثاني بفتح التاء، وضم العين، وضم الدال، لا فتحها، وتشديد نون التوكيد مفتوحة، بوزن(لَتَفْعُلُنَّ)، وهنا نقف وقفاتٌ تبيِّنُ دلالة الفتحِ هنا، ودلالة الضمِّ هناك، ونكشفُ عن بعض ما وراء الفتحة، والضمة من معان، وقيم، وأحكام، ومبادئ دعوية مهمة، ومتطلبات دينية تتساوق مع تكاليف الدعوة، ورسالتها الشريفة، ودلالات قد تغيب عن غير المتخصصين.
الآية، وسياقها تتكلم عن تهديد الملأ من قوم شعيبٍ لشعيب (عليه السلام) شخصيًا، ثم تهديد آخر لقومه قاطبةً، فكيف أظهرت اللغة هذا التهديد من قوم شعيب لشخصه الشريف؟، وكيف أظهرت تهديدهم لمن معه من المؤمنين؟، وما الإمكانات اللغوية، والتعبيرية التي استعملتها اللغة الحكيمة في نقل هذين التهديدين؟؛ حتى نتأكد من امتلاكها بحركة واحدة لكم من الظلال والمعاني، وعدد كبير من الأهداف، والنتائج.
فجملة:(لنخرجنك يا شعيب) تدخل تحت أساليب القسم، فقد تضمَّنت لام القسم، وحذف كل من المقسم به للعلم به، وواو القسم، والدليلُ على هذا القسم وجودُ لام القسم التي هي علامة على القسم، وإشارة إليه، والقسم يكون محملا بالتوكيد، فاللام للقسم، وهي علاوة على دلالة القسم، تفيد في الوقت نفسه التوكيد، وقد ورد الفعل مضارعًا:(نخرج)، والمضارع ـ كما هو مقررفي البلاغة ـ يفيد الاستمرار(وهو هنا استمرار التهديد والوعيد)، ونون التوكيد المباشرة المشددة الثقيلة وما تعطيه من عمق المعنى، وتثبيت الدلالة، وفيها يبدو رفع الصوت، والإشارة بأصابع اليد، ثم التدنِّي في الأسلوب.
* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]