د. أحمد مصطفى أحمد
من الواضح أن الحرب في أوكرانيا لن تنتهي قريبا، حتى إذا حققت روسيا أهدافها الأساسية بتأمين شرق وجنوب البلاد المتاخم لحدودها ضمن ما وصفته من البداية بأنها "عملية عسكرية خاصة". فالغرب بقيادة الولايات المتحدة يدفع نحو استمرار الحرب بكل ما يملك من وسائل، ليس فقط بالدعم العسكري المباشر لأوكرانيا ولكن أيضا بالاستمرار في "استفزاز" روسيا مثلما فعلت مؤخرا بالضغط على فنلندا والسويد كي تقررا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). يذكر أن أحد الأسباب الرئيسية للحرب الروسية في أوكرانيا كان دفع كييف للانضمام للناتو، وهو ما اعتبرته القيادة الروسية تهديدا مباشرا لأمنها القومي ونكوصا غربيا عن تعهد سابق بعدم توسعة نشاط الناتو شرقا أو وضع قواته وأسلحته على الحدود الروسية مباشرة. وبالتزامن مع توسعة الناتو بضم دولتين محايدتين متاخمتين لحدود روسيا، نجد التقارير الإعلامية الغربية تتحدث عن تدبير انقلاب في موسكو يطيح بالرئيس فلاديمير بوتين، ضمن الحملة الإعلامية الغربية على روسيا.
إنما الأهم هو استمرار العقوبات الاقتصادية على روسيا وتصعيدها، على أمل أن يؤدي الحصار الاقتصادي إلى إثارة اضطرابات داخلية تطيح بالرئيس بوتين وحكومته. هذا الهدف النهائي للولايات المتحدة، والذي تحشد حوله تحالفا غربيا موسعا، ما زال يبدو بعيدا. وذلك ما يجعلنا نتوقع ألا تنتهي الحرب قريبا، وحتى إذا انتهت بإعلان موسكو تحقيق أهدافها فإن العقوبات الأميركية والغربية على روسيا لن ترفع بسرعة. والواضح أن الغرب مقتنع بقدرته على "خنق" روسيا وضرب مثال للصين عما يمكن أن يفعله بها باعتبارها القوة التالية للاستراتيجية الغربية لوقف صعود أي مراكز جديدة تهدد مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة. لكن المؤشرات الأولية الآن تفيد بأن الأمر ليس بهذه السهولة، وأن الاستراتيجية الأميركية ـ البريطانية تجاه روسيا والصين ربما لا تقل في أخطائها عن غزو واحتلال العراق عام 2003.
أولا: ورغم أن الاقتصاد الروسي ليس كبيرا بحيث إن تضرره يهز الاقتصاد العالمي كله، إلا أن تبعات أشهر قليلة من تلك العقوبات الغربية على روسيا بدأت تظهر في الغرب، وأوروبا وبريطانيا وأميركا على وجه الخصوص، ربما بشكل لم يكن متوقعا أن يأتي بهذا السوء. صحيح أن تلك اقتصادات متقدمة قادرة على امتصاص أزمة غذاء وطاقة بشكل أفضل من الدول النامية والفقيرة، لكن الناس في الغرب بدأت تشعر بألم الحرب والعقوبات بسرعة وبقوة. وبدأ كثيرون من الناس العادية لا يبلعون تبريرات السياسيين في بلادهم بأن "روسيا وبوتين" هو المسؤول عن عدم قدرتهم على دفع فواتير الكهرباء والغاز لمنازلهم أو اضطرارهم للجوع بالتنازل عن وجبة من ثلاث وجبات في اليوم لعدم قدرتهم على شراء الطعام الذي وصلت أسعاره إلى مستويات "كارثية". صحيح أن الإعلام السائد ما زال على خطى حملة "التوجيه المعنوي" بالحشد العدائي ضد روسيا ولو بالتلفيق وأنصاف الحقائق في أغلب الأحيان، لكن الأصوات المغايرة لتلك النبرة تزداد وإن لم تصبح بعد مسموعة ومقروءة في وسائل الإعلام التي تغلب عليها الدعائية السياسية.
ثانيا: يبدو أن روسيا تمكنت من امتصاص الصدمة الهائلة الأولى للعقوبات الغربية وساعدها على ذلك بعض ما كانت تحضره على مدى السنوات الماضية تحسبا لتلك العقوبات. فمنذ فرضت العقوبات السابقة على روسيا في 2014 إثر ضمها لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا وهي ترفع من احتياطيات الأصول الأجنبية لديها وتطور صناعات محلية لإنتاج بضائع وسلع أساسية بديلة للمستورد حتى أنها طورت نظام بطاقات ائتمان خاصا بها (بديلا لفيزا وماستر كارد) ونظام تراسل مصرفي بديلا لنظام "سويفت" العالمي. صحيح أن تأثير تلك البدائل يظل محدودا بسبب عدم اشتراك كثير من الدول فيها، لكنها بالتأكيد ساعدت روسيا على أن تواصل علاقاتها الاقتصادية والتجارية والمالية مع كتل آسيوية مثل الصين والهند وغيرها. ولا شك أن روسيا استفادت كثيرا من درس تعايش إيران مع حزم عقوبات دولية وغربية غير مسبوقة مستمرة منذ عقود، وكيف أن طهران استمرت وإن بثمن اقتصادي واجتماعي كبير لكنها البلاد لم تشهد انهيارا ولا انقلابات.
وأيا كانت نتيجة الحرب الحالية في أوكرانيا، والصراع الغربي مع روسيا، فإن هناك تحوُّلا في غاية الأهمية يحدث بالفعل، وإن لم يكن ظاهرا بقوة، لكن آثاره ربما تدوم بعد ذلك. هذا التحوُّل هو "الاتجاه شرقا" في فصل واضح بين الشرق والغرب. وإذا أخذنا في الاعتبار تكتلا يضم روسيا والصين والهند وإيران وغيرها، فإن هناك مناطق في العالم سترفع شعار "للشرق در". خصوصا تلك المناطق التي تعاني من علاقاتها بالغرب من نظرة دونية غربية لها واستنزاف لمواردها الطبيعية دون دعم للتنمية المستدامة فيها. وإذا كانت الولايات المتحدة لديها أكبر اقتصاد في العالم، فإن الصين لديها ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وإذا كان الغرب يتمتع بمرونة هائلة تمكنه من امتصاص الصدمات والقفز فوقها، فإن الشرق عموما لديه من التراث الحضاري والإنساني ما يمكنه من تطوير قدرات مماثلة وإن لم تكن بالضرورة على نمط الديموقراطية الرأسمالية الغربية.