إبراهيم بدوي:
قيل ما قيل عن تاريخ الشدة المستنصرية، ولا أدري هل ما كتبه المؤرخون عنها، وما وصلنا من أهوال شابها المبالغة عن الشدة المستنصرية، خصوصا ما ذكره المؤرخ ابن إياس؟ ولمن لا يعرف الشدة المستنصرية، فهي المجاعة القاتلة التي حلت على مصر، أثناء حكم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، والتي أودت بحياة ثلث الشعب المصري حينذاك، ورصدها المؤرخ الشهير تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي المقريزي في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" الذي كتبه سنة 1442هـ، وقال (إن الأرض تصحرت وهلك الحرث والنسل وخُطف الخبز من على رؤوس الخبازين وأكل الناس القطط والكلاب حتى أن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها، وجاع الخليفة نفسه حتى أنه باع ما على مقابر آبائه من رخام، وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه برغيفين كل يوم، وأن امرأة من أرباب البيوت أخذت عقدا لها قيمته ألف دينار، وعرضته على جماعة في أن يعطوها به دقيقا، والكل يعتذر إليها ويدفعها عن نفسه إلى أن وافقها بعض الناس، وباع لها تليس (شوال) دقيق، لينقض الناس على ما اشترته وتستطيع أن تفلت بحفنة من بين أيديهم، لتطلق مقولة خالد مصاغ الأمراء يباع برغيف.
لا أدري لماذا جاءت تلك الشدة بكل أهوالها عندما قرأت خبر تحت عنوان الولايات المتحدة تُناشد الهند بالعودة عن قرار حظر تصدير القمح؟ ولعل التفاصيل هي ما دفعت اللاوعي لدي من الربط بين الحدثين. فوفق الخبر فقد ناشدت الولايات المتحدة الأميركية الهند بالعدول عن قرارها بحظر تصدير القمح، وذلك وفق التصور الأميركي سيؤدِّي إلى تفاقم نقص الغذاء وسيؤدِّي إلى ارتفاع أسعار هذه السلعة الغذائية الأساسية إلى مستويات غير مسبوقة، ولعل ما لم تقله واشنطن إن قرار المنع تخطَّى مسألة زيادة الأسعار، بل إن آثاره ستتجه بالعالم نحو مجاعات، فهناك العديد من الدول ستغلب مصلحة مواطنيها، ولديها حق في ذلك وتحتفظ بإنتاجها، وهناك دول لا تجد ما تشتريه، وستعاد قصة الأميرة المستنصرية التي اشترت الرغيف بألف دينار.
لقد تحدثنا سابقا بأن وباء كورونا قد كشف الضعف العام في مصروفات العالم، وأن غياب تمويل الأبحاث العلمية المرتبطة بحياة الإنسان الأساسية هو ما جعلنا أكثر عجزا عن مواجهة هذا الوباء، فميزانيات الدول توضح هذا العوار، الذي ظهر مؤخرا جراء أزمات نقص الغذاء، وذلك برغم أننا نسمع منذ عقود طويلة عن أن حروب المستقبل ستكون بسبب الماء والغذاء، وقد حذر علماء كثر من الانفجار السكاني، فقد شهدت دول العالم خلال العقود السبعة الأخيرة تزايدا سكانيا سريعا رافقه تدفق مستمر للسكان من الريف إلى المدن واكتظاظ للسكان فيها، وتوسع عمراني على حساب الأراضي الزراعية، وخلص كثير من العلماء إلى حدوث تأثيرات كارثية على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في السنوات المقبلة، إذ سيزداد الطلب على المواد الغذائية والمياه، وسيكون الإنتاج أقل بكثير من الاحتياجات، وبدل من أن تعمل الدول، في المنظومة العالمية، على توفير أبحاث علمية زراعية ومائية ذات تكلفة منخفضة، تسد الفجوة ما بين الاستهلاك والإنتاج، وجدناها تهدر الأموال في حملات دعائية مشبوهة تدعو الناس فيه لعدم الإنجاب.
إن ما نراه حولنا، جراء أزمات عارضة، يدفعنا لضرورة تغيير أولويات البشر، وتوفير التمويل اللازم لأبحاث علمية تضع حلولا مبتكرة آمنة على صحة الإنسان، تجعل كافة الدول والأفراد لديها أمن غذائي أساسي، يحافظ على سلام المجتمعات والدول، لست متخصصا لأذكر هذه الطرق، لكني أرى أن الحاجة أم الاختراع لتذكرني بقصة أحد الجيران في إحدى المناطق الشعبية بالمحروسة، والذي واجه زيادة سعر الطماطم بزرعها فوق سطح منزله، وجلس شهورا يشعر بالزهو وهو يزرع ما يحتاجه من مزروعات، وبدلا من أن تشجعه الدولة آنذاك، وتسانده في مشروعه الذاتي، هدمت ما بناه، وحررت له مخالفة، لا أدري لماذا؟ لكنها تجربة يمكن أن يبنى عليها، ونعود كبشر حول العالم لإنتاج ما نحتاجه من سلع أساسية، وننتج ونخبز ونربي لنذبح ونأكل، ولتذهب العولمة للجحيم، فالعالم يمر بإرهاصات شدة مستنصرية، سوف تأكل الغث والسمين، فهل لدينا رؤية لصناعة مستقبل بحلول مبتكرة؟