د. رجب بن علي العويسي:
بادئ ذي بدء يجب أن نعترف بأن التحدي الفكري من أكثر التحديات التي يعيشها العالم اليوم تعقيدا وخطورة وإيلاما والتي أصبحت تهدد كيانات المجتمعات ووحدتها وتستهلك مواردها البشرية والمادية والاستراتيجية، وأن ما يظهر في الواقع العالمي من مشكلات اقتصادية ومالية وتكتلات أو تحدِّيات أمنية وحالة عدم الاستقرار والأزمات والحروب التي باتت تعيد العالم إلى مربع الحرب البادرة؛ إنما يرجع إلى ظهور الايديولوجيات الفكرية واتساع نطاقها وتسارع الإعلام غير المسؤول في الانتصار لها وإثارتها، حتى باتت تنهش في جسد الاستقرار العالمي، ويستغلها أصحاب الأفكار التحريضية والمروجين للظواهر الفكرية السلبية والعدائية في الترويج لها والتأثير بها على الشعوب وتغرير الشباب بها، في هروب من حالة اليأس والإحباط وغلاء الأسعار وزيادة الباحثين عن عمل والمسرحين من أعمالهم حول العالم، وبالتالي فإن الوصول إلى حلول عملية جذرية قادرة على فهم أبعادها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتحديد سيناريوهات العمل وآليات التعامل معها بحاجة إلى جملة من الموجهات، ومن بينها، الاعتراف بأثر هذه الظواهر الفكرية المنتشرة في المجتمع وبين شبابه وخطورة استمراريتها في ظل حالة الإغفال أو عدم الاكتراث بتصحيحها أو احتوائها أو تبنِّي سياسات وطنية في الوقاية منها ومعالجتها على أسس مشتركة وقواعد عمل محددة، تلتقي فيها الأفكار والاستراتيجيات والبرامج للكشف عنها وفهم منطلقاتها وإبراز أسبابها وقراءة مسبباتها وتحليل أبعادها، وتأثيرها على مستقبل الأجيال القادمة والتنمية الوطنية، بالإضافة إلى تعميق المسؤولية الاجتماعية المشتركة في إطار بناء سيناريوهات واستراتيجيات واضحة، وتبنِّي إجراءات عملية أكثر نافذية وتأثيرا في الوقوف على حيثياتها، بما يضمن رسم خريطة المجتمع الفكرية وتحديد معالمها وضبط مساراتها وتقنين مصادرها.
على أن الحديث عن أي مراجعات ومعالجات وتشريعات وضوابط للحدِّ من انتشار الظواهر الفكرية السلبية وما لها من تبعات وأبعاد اجتماعية واقتصادية وأمنية، يجب أن يستند إلى روح الأمان الوطني ومنطقة الحوار المشترك، لتشكل جميعها روابط متينة لاستقرار فكري مستديم ومنهج قائم على أساس ترسيخ دولة القانون والمؤسسات والعلم والعمل والهوية، فكان إصدار النظام الأساسي للدولة، بموجب المرسوم السلطاني رقم (6/2021) الذي حدد شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، والمبادئ الموجهة لسياسة الدولة، والحقوق والواجبات العامة، وتكوين أجهزة الدولة المختلفة وبما أشارت إليه مواده من مسلمات وثوابت ومرتكزات ومبادئ، ونصَّت عليه من حقوق وواجبات ومسؤوليات والتزامات، وما حددته من عقوبات وجزاءات خصوصا ما يشكل منها مرتكزات البناء الفكري للدولة وسياساتها ومواطنيها والقاطنين فيها، فقد جاء في المادة (٢) دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية هي أساس التشريع.
كما أن ما قد يوفره المستقبل من اتساع هذه الظواهر ووجود المنتمين إليها من الشباب من الجنسين، وسرعة انتشارها بفعل التقنية والمنصات التواصلية وغيرها يستدعي مراجعات تأخذ في الاعتبار العوامل والمؤثرات المعززة لها، والثغرات والتحدِّيات التي باتت تؤسس وجودها، ثم فهم المنطلقات التي تقوم عليها هذه الظواهر، والمبررات التي اعتمدها، والبدائل والسيناريوهات القادمة التي ينبغي أن تطرح في سبيل معالجتها واحتوائها والسيطرة عليها لهذه التحدِّيات الطريق الذي يضمن الاحتواء لها والسيطرة عليها، وتشجيع المجتمع أفراده ومؤسسات على العمل في بيئة فكرية متوازنة تشجع الابتكار والإبداع وإنتاج الفرص وصناعة الإلهام وتعميق منهجيات الحوار الداخلي بين أبناء البيت الوطني ومؤسساته ومراكزه العلمية والبحثية، هذا الأمر من شأنه أن يقلل من حجم التخوف وعقدة المفاهيم التي ما زال يشير إليها البعض عند الحديث عن الظواهر الفكرية السلبية في المجتمع العماني، وأن الاعتراف بهذه الظواهر وتسميتها بأسمائها والحديث عنها عبر القنوات الإعلامية بفنونها المختلفة الرسمية أو الخاصة، تشجيعا لأصحاب هذه الأفكار، وإمعانا لهم بالاستمرارية في هذا المسار ودعوة لهم في المزايدة على قِيَم المجتمع وهُويته، ومحطة ضعف قد يفسرها ـ مروِّجو الظواهر السلبية والأفكار التحريضية ـ على أن دعوة للجهات المعنية في وضع هذه الظواهر في الحسبان، ومع هذا التحفظ إلا أن هذا التخوف قد لا يكون في محله، في ظل وضوح الضوابط وكفاءة الأدوات، ووجود منصَّات الاحتواء، إذ إن مصادر المعرفة اليوم وتعددها واتساعها يجعل من الأهمية بناء هذه الضوابط مع تحصين كيان المجتمع وتقوية الرصيد البنائي الفكري والأخلاقي لأبنائه باعتباره الحل الأنسب في مواجهة سرعة انتشار هذه الظواهر وليس الانغلاق أو الإغلاق والمنع والهروب من المفاهيم والمصطلحات، فكما أنها غير مجدية فهي أيضا مكلفة، ولها تبعاتها القانونية والدولية؛ باعتباره خروجا عن الاتفاقيات والضوابط والمعايير العالمية في هذا الجانب، وبالتالي يصبح تثبيت وجودها ومعالجتها عبر التعليم والإعلام والمؤسسة الدينية خيارا استراتيجيا لتمكين المجتمع من إدارة ممارساته وتقوية البناء الفكري الديني والقِيَم والأخلاقي والعلمي لديه للعيش في ظروف معقدة وعالم متغير، فإن الكثير من المعلبات الفكرية الخارجية والداخلية تجاوزت الحدود وإجراءات المراقبة والتفتيش في المنافذ البرية والبحرية والجوية، كما دخلت البيوت من خلال العالم الافتراضي الواسع في حياتيا اليومية.
وعليه، فإنّ ما يدور في فلك المجتمع اليوم من ظواهر فكرية وأفكار أحادية التفكير أو جمعية، تُمثِّل اختبارا لإرادة المجتمع وقوة بنائه الفكري، وما تحظى به الثوابت من حضور في فقه بناء الأجيال وتعليمهم، وقدرته على المواجهة والتكيف معها والتعاطي مع مستجداتها، وفهم مداخلها وإبراز وجه النقيض لها، وإلى أي مدى تقدم هذه الظواهر الفكرية مساحات راقية في العمل الوطني المنتج، أو تبرز روح التغيير في السلوك الاجتماعي، فإن طبيعة المرحلة وما فيها من حساسية، تتطلب المزيد من التأني والتبصر والفهم والاستيعاب والقراءة المعمقة للأحداث، والمزيد من المكاشفة والمصارحة، واللقاءات الفكرية التفاعلية، وتقوية دور المناظرات الفكرية بين طلبة التعليم، والاستفادة منها في إبراز الأصول والثوابت التي يتميز بها المجتمع العماني، وهي بحاجة إلى مزيد من التكاملية بين المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية والتشريعية، كما أنها بحاجة إلى مزيد من التهذيب والمراجعة والتصحيح فإنها أيضا بحاجة إلى الاحتواء الفكري للمجتمع؛ باعتباره الطريق الذي يضمن الاستفادة من كل المعطيات القادمة على الساحة الوطنية، بالشكل الذي يستطيع من خلاله المجتمع إعادة إنتاج ذاته وتطوير ممارساته، وتعميق فرص التغيير ونهضة الفكر، ويصبح الاحتواء الفكري مساحة أمل وتأمل للمزيد من الإبداع والابتكار وخلق صورة جديدة للواقع تبرز الممكنات والفرص التي يتميز بها المجتمع، وقدرته على التكيف مع المستجدات والتعاطي مع الاختلاف والأفكار الاستثنائية مهما كان نوعها بمزيد من التصحيح والمراجعة والتحليل والمحاكاة لتندمج مع المكون المجتمعي وتذوب وتنصهر في المكوِّن الفكري والثقافي، في ثباته واستقامته واعتداله وتوازنه وفاعليته، إذ إن هذه المكوِّنات الأساسية إن أحسن استغلالها ووضعت لها الضوابط ووظّفت بشكل صحيح في بناء نموذج فكري وطني يتقاسم مشتركات الهُوية العُمانية، قادر على استنهاض الشعور الداخلي للفرد نحو خدمة وطنه وتوجيهها لخدمة المجتمع، لتصب جميعها في صالحة قوة المجتمع وتماسك بنيانه.
كما لم تعد مسألة الاقتصار على تداول المعلبات الفكرية والردود عليها في المنصَّات التواصلية يخدم البناء الفكري للمجتمع العُماني في أصالة أدواته واستقامة مبادئه، أن لو تم التعاطي معها من خلال حشد برامج الإعلام الرسمي والتعلم وغيره في إيضاح صورتها بكل شفافية واحتواء مروجيها في سبيل إعادة إنتاجه بطريقة تتناغم مع المبادئ الوطنية والتوجُّهات الرسمية، من خلال قراءة هذه الأفكار والظواهر في صورة أكثر شمولية واتساعا وتكاملية بين دور القطاعات المعنية بها والمسؤوليات المشتركة حولها، في ظل موجهات واضحة ومحددات قائمة على إعلاء القِيَم الدينية وقِيَم العمل والحياة الراقية وقِيَم السمو الفكري والنهضة الفكرية المتوازنة والبُعد عن الشطحات الفكرية التي قد يكتسبها الشباب من خلال المنصَّات التواصلية والتأثر بالآخرين، لذلك كان البحث اليوم عن أهمية إيجاد مركز وطني متخصص للحوار الفكري، لما من شأنه أن يوفر الكثير من الفرص الداعمة لرفع درجة الجاهزية الفكرية في التعاطي مع المستجدات والظواهر وتبنِّي رؤية وطنية في التشخيص والمعالجة، ويوفر إجابات كافية مقنعة على التساؤلات التي يطرحها المروجون لهذه الأفكار، ويعطي فرصة لمزيد من الحوارات الفكرية في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ودور المواطن والدولة والحكومة، هذا الأمر من شأنه أن يعزز القدرة الوطنية في الفكر الاستراتيجي ودور العقل الاستراتيجي بالمؤسسات، ويؤسس لإنتاج دراسات استشراف المستقبل وقراءة ما وراء الأحداث، فإن من شأن هذه التوجُّهات التطويرية في إعادة هيكلة التعامل مع الظواهر الفكرية في المجتمع أن يسهم في تعزيز مفهوم التعايش الفكري والتناغم المعرفي وتقليل مساحة الاختلاف بين الأجيال القادمة والجيل الحالي، والعمق في دراسة وسبر الواقع، للوصول إلى مهنية في الطرح الفكري، ووضع إطار وطني واضح يمكن خلاله فهم هذه الظواهر في ظل خصوصية موقعها المكاني والظروف المساعدة لها بما يضمن تشجيع المجتمع على التفكير الناضج والفكر الناقد وصناعة العقل الاستراتيجي، وضبط البناء الفكري بالقِيَم والمبادئ، وإيجاد مساحة أكبر للإيجابية والتفاؤلية، وبات من المهم الخروج من التقليد والتكرارية والمساحات الضيقة للمؤسسات من خلال التفكير خارج الصندوق، ورؤيتها التكاملية للمعالجة، وقدرتها على إدارة هذه الظواهر بكل احترافية.
أخيرا، ليس من المنطق اليوم تجاهل هذه الظواهر أو الهروب من التعامل معها، بحجة عدم الاعتراف بها، أو لأنها ليست في قاموسنا الاجتماعي أو الوطني، ومع ذلك فهي واقع فرض نفسه بقوة، في ظل معطيات اقتصادية واجتماعية وتقنية داعمة، وتبقى الحكمة في كيفية التعاطي مع سيل هذه الأفكار والظواهر في ظل استشعار الجميع لمسؤولياته الوطنية والأخلاقية والدينية. إن المطلوب هو مزيد من التفكير المعمق، والاحتواء الراقي، والفهم المتحقق، وتجاوز عقدة المفاهيم، وإلغاء نزعة الذاتية، وسد فراغ الضوابط، عبر تعزيز التشريعات والقوانين المتناغمة مع معطيات الواقع، والإعلاء من المهارات الناعمة في التعليم، وتعزيز ثقافة اختيار المصادر وانتقاء الخيارات وتوسيع فقه البدائل، وتحويل التوجُّهات الفكرية للرأسمال الاجتماعي البشري العُماني إلى مشاريع إنتاجية وأفكار عملية تمشي على الأرض، تصنع القوة وتحفظ الهُوية.