أ.د. بثينة شعبان:
لم تكن زلَّة لسان الرئيس جورج بوش الابن لتحدث في ظروف أكثر مواءمة وخدمة لما تحاول الصين وروسيا أن تؤكدا عليه وسط أحداث متسارعة ومعقدة؛ فقد قال الرئيس بوش الابن: "قرار رجل واحد لشن غزو وحشي غير مبرر للعراق...آه... أقصد لأوكرانيا" وضحك الجمهور، وأعاد هو: "العراق، العراق" وسط أنباء جادة يتحدث بها الرئيس الصيني شي جينبينج عن شكل العالم القادم في كلمته المهمة في 21 أبريل ـ نيسان لمنتدى بواو الآسيوي، ووسط إعلان وزارة الخارجية الروسية بعد مناقشة نسخة جديدة من مفهوم السياسة الخارجية الروسية على ضوء الحرب الغربية على روسيا باستخدام أوكرانيا. وبدلًا من أن يستنكر القرَّاء والمشاهدون كل القرارات الأحادية والحروب اللاشرعية التي شنتها الولايات المتحدة على الشعوب الآمنة في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن فقد أتت زلَّة لسان جورج بوش الابن المسؤول هو وأبوه عن مقتل الملايين من المدنيين العراقيين حصارًا وقتلًا وإرهابًا ووباءً لتكشف ما حاول هو وإدارته والإدارات السابقة واللاحقة أن يخفيه، وبرهن أنه يسكن في "لا وعيهم" من غزو ظالم وغير مبرر للعراق ما زال الشعب العراقي يدفع ثمنه في كل يوم من حياة أبنائه. كما أن عمليات النهب الأميركية للموارد العراقية والليبية والسورية جريمة تطول لقمة عيش جميع أبناء الشعب العربي في هذه البلدان؛ لأن هذا النهب الاستعماري لموارد الشعب السوري واحتلال أرضه وسرقة نفطه وقمحه قد تشكل زلَّات لسان لرؤساء ومسؤولين أميركيين في المستقبل، ولكنه جريمة إبادة جماعية لما سببه من آلام وموت للمدنيين المحاصرين.
ولكن العالم اليوم لم يعد بحاجة إلى الكشف عن المستور؛ لأنه لم يتبقَّ هناك مستور أصلًا سوى حملات التضليل الإعلامية التي يصدّرها الغرب للعالم وينسج من خلالها أكاذيبه وأوهامه. والخطوة الأولى المجدية في عالم اليوم هو أن يتبنى جميع الحريصين على حياة البشر إما مقاطعة هذا الإعلام الغربي المزيف، وإما التساؤل حول كل سردية يتبناها بشأن أي قضية في العالم. إنني أجد نفسي أعيد صياغة ما أقرأه من إعلام غربي حول سوريا أو فلسطين أو لبنان أو إيران أو أوكرانيا أو الصين، وأتساءل اليوم: ما هي جدوى قراءة إعلام؟ أصبحنا نعلم علم اليقين أنه مكرّس لخدمة أهداف استعمارية لمن يشنون الحروب على دولنا ويقومون باحتلال أرضنا ودعم الإرهاب ضد شعبنا وتمويله وإرسال الإرهابيين وتسليحهم واحتلال أرض أشقائنا وأصدقائنا، ويعطلون أية قرارات أممية تحاول أن تحقق ولو جزءًا من العدالة للشعوب المستضعفة؟؟
فإذا كان اجتماع وزارة الخارجية الروسية قد ناقش مهام السياسة الخارجية الروسية في ضوء الحقائق الجيوسياسية المتغيرة جذريًّا، فإن هذه الحقائق قد تغيرت بالنسبة للعرب منذ وعد بلفور وسايكس بيكو واحتلال فلسطين من قبل عصابات الإرهاب الصهيونية ومنذ غزو العراق وقصف ليبيا وشنّ حرب إرهابية على مدى عقد ونيف على سوريا وتدمير حياة المدنيين العرب في اليمن، ومع ذلك لم يعقد العرب اجتماعًا واحدًا لدراسة الوضع المستجد حيالهم ودراسة الخطوات التي يمكن اتخاذها لحماية أنفسهم من سياسة التشظي وتفتيت البلدان والشعوب إلى طوائف وأعراق وإثنيات على حساب اللحمة الوطنية المنشودة، وهي سياسة فرق تسد الاستعمارية التي تستهدف العرب جميعًا.
إن النقاش الدائر في روسيا والصين يُري أن البلدين يدركان أن العالم قد تغيَّر، وأن لا عودة تُرتجى إلى عالم ما قبل 24 فبراير ـ شباط وهو تاريخ انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولذلك فإنهما منشغلان بوضع المرتسمات الجديدة لعالم ما بعد اليوم وعالم المستقبل. ومن يقرأ كلمة الرئيس شي جينبينج يجد أنها تضع رؤية للتحدِّيات التي طرأت على عالم اليوم ومسارًا للتعامل معها بجدية لضمان السير إلى الأمام رغم كل التحدِّيات. ويؤكد خطاب بينج على أن زمن الحرب الباردة ونزعة الهيمنة وسياسة القوة ستكون جزءًا من الماضي، وقد طرح مبادرة الأمن العالمي من خلال التمسك بمفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، والعمل معًا على صيانة السلام والأمن في العالم ومعارضة السعي إلى الأمن القومي على حساب الأمن القومي للغير.
في هذه المرحلة المفصلية بتشكُّل عالم جديد وسعي الأطراف في الشرق أن تكون فاعلة في تشكيل هذا العالم لقناعتهم بأن أسس الهيمنة الغربية آيلة للزوال، وأنها أصبحت مرفوضة وغير قادرة على الاستمرار، وأنها تخوض معركة منازعة أخيرة مهما بدت أنها طويلة اليوم ولكنها ستكون الأخيرة. في هذه المرحلة يتهدَّد العرب جميعًا خطران أساسيان، بالإضافة إلى خطر الصهيونية الجاثمة على ضمير الأمة وأرض فلسطين والجولان ألا وهما: خطر أطماع الجوار، وخطر ألا يجد العرب لأنفسهم موطئ قدم إذا ما استمروا في حالة الفرقة والتشظي التي يعيشونها اليوم والتي لا يبدو أن هناك جهدًا حقيقيًّا وواعدًا للتخلص منها. فخطر الجوار اليوم حقيقي على سوريا والعراق وليبيا حيث يحتل الأرض ويقيم القواعد وينشر لغته وثقافته وأكاذيبه وعملاءه، ويُلبس هيمنته لبوس الحرص على اللاجئين أو المسلمين أو محاربة التنظيمات الكردية وهي لبوس لا تقل خطرًا علينا جميعًا من وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو.
صحيح أن العيون تتجه إلى أوكرانيا لمعرفة نتيجة الحسم العسكري بين روسيا وحلف الناتو هناك، ولكن ما يجري بالتوازي من إعادة تشكُّلات وصياغات في عالم اليوم قد تكون هي الأهم؛ لأنها هي التي ترسي أسس وشكل العالم الجديد وسوف تكون الغلبة ولا شكّ لمن يخطط ويفكّر من اليوم أو من البارحة أين سيكون تموضعه في هذا العالم، وكيف وما هي الميزات والأدوات التي يمتلكها كي يكون رقمًا صعبًا في عالم يسهم ببنيانه ويُشكِّل جزءًا من هُويته وتوجُّهاته؟