د. جمال عبد العزيز أحمد:
..ومناداته النبي شعيب (عليه السلام) باسمه، وهو نبي مرسل، وهم يعرفون أنه مرسل من عند الله، يجب تكريمه، والحديث معه بأسمى القول، وأنبل اللفظ، وأرقى العبارة، لكنهم نادوه باسمه، كما ينادي بعضهم بعضًا، فدلَّ ذلك منهم على سوء طباعهم، وتدنِّي مستوى أخلاقهم، واستفال تربيتِهِم، وكوْنُ الفعل الأول(لنخرجنك) بهه الصيغة الصرفية فيه تهديد صارخ، ووعيد واضح لشخصه الشريف، فهو المقصود بالإبعاد، والإخراج، والضمير المخاطب (لنخرجنك) يشي بذلك، ويبيِّنه، وكأنه لا حقَّ له في العيش في بلده، وأرضه، ويزعمون أنها أرضهم وحدهم(من أرضنا)، وهي ملك لهم، وهم الذين يُخرِجون مَنْ شاؤوا، ويُبْقُونَ مَنْ أرادوا، فالتهديد له قد تمثل في عدة أمور لغوية، منها استعمال أسلوب القسم، وتضمينه اللام الواقعة في جواب القسم القوية، ونون التوكيد الشديدة بتوابعها الصوتية، وما حولها من لغة الجسد، وإشارات اليد، وتقطيب الجبين، وعلو الصوت، والإشاحة بكل أصابع اليد، وهو كناية عن الوضاعة، وسوء الحديث مع أكمل الخلق عند الحق، والنبي المرسل إليهم؛ لأخذهم إلى الطريق المستقيم، وقد تبيِّن التهديد كذلك لغويا باستعمال ضمير المخاطب للمفرد المذكر، وهو سوء خلق في سوء خلق، وترى الإدغام بغنة في النون- التي هي نون التوكيد المشددة القوية، التي تأخذ في نطقها قدر حركتين- فيه مزيدُ تهديدٍ، واتساعُ وقتٍ للتنديد، والوعيد، وكذلك تشمُّ رائحة الكِبر منهم، هذا الكبر الذي تمثَّل هو الآخر في حديثهم عن أنفسهم بنون العظمة:(من أرضنا)، وكأنها ليست أرضه، مثلما هي أرضهم، والتعبير بالإخراج من الأرض هو أبشع أنواع الظلم للإنسان، وليس الإبعاد فقط، فالإخراج يعني الإبعاد، والطرد، والظلم بعدم تمكينه من أخذ شيء معه، وفيه مصادرة لممتلكاته، ونزعٌ لحقوقه، ونهبٌ لتعبه في حياته، كلُّ ذلك بينتْه أيضا الجيم المفتوحة (حركة البناء في المضارع)، ففيها تهديد مباشر له، ولشخصه الشريف كنَبِيٍّ، ورسولٍ، أتاه التهديد من عِلْيَةِ القوم، وأصحابِ الكلمة في مجتمعاتهم، ومَنْ تحت أيديهم كلُّ سبل وألوان التنكيل، والتهديد، ومَنْ يملكون تنفيذَ ما به يهددون، ويتوعَّدون، ففتْح النون في (لنخرجَنَّكَ) تهديد مباشر لشخصه الكريم، واستعمال ضمير المخاطب المذكر (كَ) فيه ما يحزنه، ويُحزِن قلبه على سوء الأدب، وعدم التوقير، وانعدام التقدير لرسل الله، وأنبيائه، بدا ذلك كله في هذا التعبير بحركاته، وكلماته، وأظهرت الفتحة على الجيم، وتشديد النون مدى ما تعرض له سيدنا شعيبٌ ـ عليه السلام ـ من أولئك الظغمة الفاسدة، المتسَمَّيْن بالملأ، والمتصفين بالصفوة، أو النخبة، وهم رؤوس القوم، وموضع نظر الناس، وتردُّد الخلق عليهم، وأنهم المشار إليهم في أقوامهم، ومجتمعاتهم، فأخذ التهديد من هنا وزنه، وخطورته، ومعرفة الكثير من أفراد المجتمع به.
ثم يأتي التهديد لمن آمن به، وكان معه من قومه الذين آمنوا، وحسن إيمانهم:(أو لتعودُنَّ في ملتنا)، بفتح التاء، وضم العين، وضم الدال في (تعودُنَّ)، وتشديد النون، وكل ذلك له ما وراءه من الدلالات؛ حيث إنه يخاطب الجمعَ من الناس، وكيف كان جمعًا إلا بعد أن قام شعيبٌ ـ عليه السلام ـ بمهمته كرسول، ونبيٍّ، وداعيةٍ، صادق، نهض برسالته معهم، وضح لهم الطريق، وتعب معهم في هدايتهم، وتبصيرهم إلى صواب السبيل، وتطلَّب هذا الأمر منه أيامًا، وليالي، كان ـ بلا شكٍّ ـ يجتمع بهم، ويشرح لهم، ويبيِّن معالم الدين القويم، وينتشل الشركَ، والوثنيات من عقولهم، وينظف أذهانهم؛ حتى استوى له هذا الجمع من الناس الذين خوطبوا بواو الجماعة؛ لكثرتهم التي تدل على مدى تعبِ النبي الكريم شعيبٍ ـ عليه السلام ـ وطول جهوده في دعوتهم، والصبر عليهم، فالفعل:(تَعُودُنَ) بفتح التاء، وضم العين، وضم الدال) أصله (تَعْوُدُونَ+ نْنَ)، حدث أولا إعلال بالنقل بين ضمة الواو، وسكون العين، فانتقلت ضمة الواو (لأنه حرف معتل، لا يتحمل الحركة) إلى العين قبله التي هي حرف صحيح يتحمل تلك الحركة، وانتقلت سكون العين إلى الواو، فصارت هكذا:(تَعُوْدُوْنَنْنَ)، ثم حذفت النون الأولى، وهي نون رفع الأفعال الخمسة؛ لكراهة توالي الأمثال، فصار الكلمة من:(تَعُوْدُوْنَنْنَ) إلى:(تَعُودُوْنْنَ)، ثم التقى بعد حذف نون الرفع ساكنان، هما واو الجماعة (الضمير المبني على السكون)، والنون الأولى من نوني التوكيد (وهي بالطبع ساكنة)، واللغة لا تجيز التقاء الساكنين، فحُذِفَتْ واو الجماعة (على الرغم من أنها الفاعل)، وضُمَّ ما قبلها إشارةً إليها، ودلالة عليها.
* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]