سعود بن علي الحارثي
ثانيا: الاستعداد.
عادة ما تكون الأشهر القليلة أو الأسابيع التي تسبق السفر عامرة بالبهجة وبمناقشة الترتيبات والإعداد للرحلة وتنظيم برنامجها وأماكن الإقامة المناسبة، وتعميق المعرفة بالوجهات وطبيعة مجتمعاتها ومحتوى ثقافتهم وأبرز مواقعها ومعالمها السياحية وتبين الصعوبات ـ إن وجدت ـ التي تتطلب تهيئة وتمهيدا ومعالجة، مع ما يصاحبها من مقالب ودعابات وتنسيقات، خصوصا وأن هذه الرحلة تنفذ وبعضنا قد حرم من السفر والتحليق بين فضاءات العالم لفترة طويلة، فهي تأتي بعد فطام دام ما يقارب الثلاث سنوات، فما أجمل وأبهى حياة الحرية بعد قيود ألزمتنا مكانا أو أمكنة معروفة لا نفارقها... ظهرت صعوبات أعاقت ضم البرتغال إلى إيطاليا في سفرتنا المزمعة، تتعلق بالطيران الداخلي بين "لشبونة" و"نابولي"، وقيود واشتراطات حول فحوصات "كوفيد19" ـ كان هذا بالطبع عند مرحلة حجز الطيران في فبراير الماضي ـ وارتفاع أسعار تذاكر السفر والسيارة المستأجرة... فاستعضنا عنها بـ"سلوفينيا"، وهي بلد جميل وساحر في "أوروبا الوسطى"، وأجلنا "البرتغال" إلى فرصة أخرى قد تهدينا إياها الحياة، وما أكثرها وأجملها عندما تستثمر بأسلوب ذكي وإدارة رشيدة. استخراج "التأشيرة" السياحية لأوروبا تتطلب الكثير من الوثائق والإجراءات والاشتراطات ذات العلاقة بتأمين صحي يغطي جميع بلدان "الشنجن"، أو "الشنغن" الأوروبي، وكشف حساب مالي لفترة لا تقل عن ستة أشهر موثق من قبل البنك، وحجز فندقي مسبق، واستمارة حماية بيانات، هذا فضلا عن اشتراط أخذ لقاحات "كوفيد19"، والإحاطة بقائمة الدول التي رفعت عنها قيود دخول منطقة "الشنجن" والتي تحدث باستمرار، والصور الشخصية وتعبئة الاستمارات إلكترونيا واستخراجها ورقيا ودفع الرسوم... فكانت مرهقة ومعقدة وبياناتها ومعلوماتها متضاربة... ففضلنا تأجيل استخراجها إلى منتصف شهر "مارس"، إلى أن تتضح الرؤية وأملا بأن تلغى بعض الطلبات، وهو تعبير بسيط عن التعقيدات التي أفرزها "كوفيد19"، وهذا لا ينفي حقيقة أن إجراءات طلب التأشيرة الأوروبية، أصبحت مرهقة، وما تحتاجه من وثائق وتدقيق ومعلومات مفصلة عن حياة المسافر ووقت وجهد، معقد للغاية ومحل شكوى من قبل الكثيرين، وهو ما أشار إليه الأخ بدر العبري في كتابه "التعارف"، أثناء استعداده للسفر إلى "شيكاغو" بالولايات المتحدة الأميركية، إذ قال: "وتصورت بداية أن الحصول على تأشيرة إلى الولايات المتحدة الأميركية معقد كالحصول على الشنجن أو الشنغن الأوروبي، ولهذا حجزت التذكرة والسكن وعملت التأمين الصحي، وأخذت كشف الحساب البنكي لستة أشهر، وصورت الشهادات وشهادة العمل وشهادة الراتب وشهادة إثبات العمل، إلا أنني فوجئت بأنهم لا يطلبون غير الجواز وصورتين فقط وورقة التسجيل الإلكتروني". وذكر كذلك بأنه استلمها في وقت قصير جدا. كما أننا حولنا سير رحلتنا من "نابولي"، إلى "ميونيخ" بألمانيا، بسبب فوارق السعر في حجوزات الطيران وقيمة السيارة المستأجرة التي تصل إلى حوالي 25% لصالح خط "ميونيخ. بحسب الموعد المحدد أنهينا إجراءات التأشيرة في الـ"21" من مارس، واستلمناها بعد أسبوع، ولم نفوت آنذاك، فرصة لقائنا في مقهى حديث لترتيب الأوراق ومراجعة المعلومات والبيانات المعبأة مسبقا في الاستمارات وتصحيح ما نراه خطأ واستكمال النواقص... في طرح الأسئلة المصحوبة بعلامات الاستغراب من حجم وكميات الوثائق التي نمسكها بأيدينا التي تطلبها سفارات دول الاتحاد الأوروبي في عصر التقنية وانتقال العالم من "المعاملات الورقية إلى الإلكترونية" كمؤشر على التقدم والتسهيل على الإنسان وسرعة الإنجاز، وفي عالم تعد بلدانه في مقدمة الأمم المتطورة والقوية والصناعية والمصدرة للتقنيات، فعلا إنها من المسائل التي تدعونا إلى الحيرة والتدبر، وتشاركنا حينها، الأمل والتطلع بأن تنجح جهود الحكومة العُمانية في إعفاء العُمانيين من تأشيرة دخول أوروبا أسوة بعدد من المجتمعات الخليجية، والعُمانيون صفحاتهم مشرقة وسيرتهم عطرة وإشادة العالم بسلوكهم محل فخر فكيف لا يكونون في مقدمة من يتم إعفاؤهم من هكذا إجراءات؟ وفي الوقت ذاته كان تفكيرنا مشتتا بين مالات الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وعودة سلالة جديدة من "كوفيد19" من جديد، "BA.2"، إذ تؤكد الأخبار بأن "موجة جديدة لكورونا تعود في صمت.. العالم يحبس أنفاسه"، وبأنها تنتشر بشكل سريع ومقلق في أوروبا وبعض دول آسيا، حيث سجلت وجهتنا "ألمانيا" في ذات اليوم "أكثر من 250 ألف حالة إصابة جديدة، و249 حالة وفاة..."، ومدى انعكاساتهما على سفرنا، الذي نعد له، وشبح الثلاث سنوات التي حبسنا فيها "كوفيد19" وتقييده لحركتنا ما زالت مخيمة على صدورنا تشاؤما وتطيرا من القادم، وتحولات الجوائح والحروب ـ يبدو أنها استعادت زخمها لتبرهن على حقيقة قانونية التغيير واستحالة بقاء الاستقرار على حاله وبأن "دوام الحال من المحال" ـ على مستقبل عالمنا الذي كان مزدهرا وجميلا قبل جائحة كورونا، فبين الشكوك والهواجس والآمال والتطلعات، عشنا الأسابيع المتبقية عن موعد الانطلاق إلى "ميونيخ"، تنقلنا انفراجة إلى آفاق السفر، ويعيدنا تأزم إلى استحالة تحقيق مشروعنا الذي نتهيأ له... أعد الصديق خلفان الرشيدي "أبو باسل"، بالتعاون مع رفيقنا في هذه الرحلة "أبو الخطاب" الأخ أحمد الصواعي، مخطط الرحلة ببراعة تهدف إلى استطلاع والتعرف على معظم المدن والمواقع والمناطق السياحية في كل من إيطاليا وسلوفينيا، وتحقق غايات الرحلة وشغف التطواف والانصهار في ثقافة وتاريخ وقِيَم وعادات البلدات والقرى والمحطات التي يشملها البرنامج، والاحتكاك بشعوبها والسير والاستمتاع بصروحها الحضارية وأريافها وطبيعتها الخلابة، وتذوق فنونها وأكلاتها الشعبية ومشروباتها التي تعرف بطبيعة مجتمعاتها... يبدأ المخطط من قرى الشمال الإيطالي التي سحرتني بجمالها وطبيعتها المتنوعة إبان زيارتي لها قبل ثلاث سنوات انطلاقا من مدينة "أنسبوك" في النمسا، لننطلق منها إلى مدن إيطاليا العريقة التي ترمز لحضارات وعصور وتحوُّلات تركت ملامحها في كل شبر منها، وهي "فلورنسا"، و"روما"، ومدن أخرى عديدة، مواصلين تطوافنا لنحط بعدها في عاصمة "سلوفينيا" وأكبر مدنها "ليوبليانا"، ثم نختتم رحلتنا بالمحطة الأخيرة التي كانت وجهتنا الأولى كذلك، "ميونيخ" التي أقمنا فيها قبل ثلاث سنوات، ليلتين مليئتين بكل ما يثير البهجة والإدهاش. فشكرا للصديقين الرائعين حقا على جهودهما ومبادراتهما التي أغرقتنا كرما وفضلا، وما أسعد الإنسان وأبهج حياته عندما تكرمه الحياة بأصدقاء طبيعتهم الود والوفاء وعطاء يفيض بلا حدود.