د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. فالضمّة ـ كما يقول علماء اللغة ـ نصف الواو (والحركات أبعاض حروف)، فتصير:(تَعُودُنْنَ)، ثم تدغم النون في النون، وتعود نونُ التوكيد حرفًا واحدًا مشدَّدًا كما كان، وتصير الصيغة في الأخير:(لَتَعُودُنَّ)، فهناك واو جماعة محذوفة لكراهة التقاء الساكنين، ونون رفع الأفعال الخمسة محذوفة لكراهة توالي الأمثال، وكان قد حدث من قبلُ إعلالٌ بالنقل بين حركة الواو، وسكون العين أدَّى إلى التقاء الساكنين، وحدث في تلك الصيغة الصرفية كلُّ هذا العمل الذي بَيَّنَ طبيعةَ الابتلاء الحاصل للنبي الكريم، ومراحله، وما قاساه سيدنا شعيب مع قومه من: جهاد، واجتهاد، وابتلاء، وانتقاد، وكل ذلك صبر عليه، ونهض برسالته بكل إخلاص، وعزم، وتؤدة، وتأنٍّ، وجاءت ضمة الدال في:(تعودُنَّ) كالشاهد على جهوده، وجهاده، وهو ما يبيِّن وجه الإعجاز في تلك الصيغة، حيث إن نون التوكيد هنا مشددة، وتسمَّى النونَ غيرَ المباشرة، ثم اشتطُّوا في نهاية التهديد، وكشفوا عن حقيقة دخيلتهم السيئة، وغرضهم الدنيء، فقالوا ـ كما سجله القرآن الكريم:(أو لَتَعُودُنَّ في مِلتِنا)، فهم يريدونها وثنية، وعبادة أشخاص، وتبعية أرضية آثمة، ويبغونها عوجًا، ثم إنَّ كلمة (في) وهي حرف جر، تفيد الظرفية والاستغراق، كأنه يريدون منه الانجراف، والانظراف في ملتهم المخترعة، ووثنيتهم البغيضة: أن يدخل بكليته، وينظرف فيها روحًا، وجسدًا على ما تفيده ظرفية (في)، ودلالتها، ثم الاعتداد، والكبر باستعمال نون العظمة:(ملتنا)، ولم يقولوا:(في المِلّة)، فهم يعظِّمون أصنامَهم، ويقدِّرون وثنيتهم عَلَنًا، ودون أدنى مواربة، أو خزي، في الوقت الذي يصادرون فيه حُرِّيَّتَهُ، ويمنعونه من العبادة الصحيحة، ويَسْعَوْن إلى إخراجه تهديدًا لشخصه الشريف، ثم تهديدًا لمن معه من المؤمنين من قومه، فَمَنْ يقبل ها من العقلاء، ناهيك عن نبيٍّ من الأنبياء؟!.

فردَّ عليهم بكلِّ هدوء، ونقاء فطرة:(قال أو لو كنا كارهين)؟!، فهو ردٌّ هادئ، يناقش فيهم مسكة العقل، ووازع الفطرة، وهو غاية في الدقة، وقمة في نقاء الفطرة، فإنَّ شأن العبادات إنما يكون حاصلا من غير إكراه:(لا إكراه في الدين)، ولكنهم كما يقال:(يكيلون بمكيالين)، والبشر هم البشر، في الحضر والمدر، ومنذ قديم الأزل، ومن يوم خلق اللهُ البشر: جَبْرٌ في جانب، وقهر وإكراه لغيرهم، وأما عندهم فلا يقبلون إكراهًا، ولا يسمحون لجبر، أو إلزام على أنفسهم، وقد سجل القرآن ذلك في صفحاته الكريمة، فقال:(الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون)، سواء كان ذلك التطفيف ماديًا في الموازين والمكاييل المادية، أو معنويا في الآراء والأفكار البشرية، والمعاملات الإنسانية، في المجتمعات كلها على سطح الأرض، فالبشر هم البشر في كل مكان، وكل زمان، يظلمون غيرهم، ولا يحبون أن يظلمهم غيرهم.

وقد اتضح هنا أمران، أولهما: تهديد صارخ واضح للنبي في نفسه، وشخصه، وقد اتضح من توكيد النون المباشرة، ومجيء اللام، ونون التوكيد المباشرة، واستعمال كاف الخطاب بصورة فجة، وبأسلوب بغيض والعنجهية، والكبر في استعمال نون العظمة:(ملتنا) مع خير الناس، وهم الأنبياء، والأمر الثاني التهديد والوعيد لكلِّ مَنْ آمن، معه، ومن قومه، واتضح ذلك أيضًا باستعمال نون التوكيد غير المباشرة، وضم الدال، واتضح التهديد المصاحب للكبر من استعمال ضمير الكبر نون العظمة (نا)، واستعمال (في) التي تفيد الظرفية، وقد بيَّنَّا طبيعة كل حركة، وما وراءها من دلالات، وما في زواياها من مَعَانٍ، وكيف نستفيد من قيمها، وأحكامها، وما صوَّرَتْه من جهد، وتعب، وسهر، ودعوة، فقد كانت ضمة الدال في:(لتعودُنَ) مبينة لها كاشفة عن: ماهيتها، وطبيعتها، وعن نزف الوقت، وخلاصة النفس، وكريم العمر، ودرة الفكر، وجلال الهدف، وكمال العطاء، وهذا نراه قد ترشح مرة أخرى بأقوال الكفار لرسلهم في سورة إبراهيم، حيث ورد فيها قوله تعالى:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (إبراهيم ـ 13).

تهديدٌ صريح للرسل، ووعيد كالح، وقول ممجوج متدنٍّ يواجِهون به الأنبياءَ، والمرسلينَ، وهم خيرُ خلقِ اللهِ أجمعين، وضَّحتْه نونُ التوكيد المباشرة في:(نُخْرِجَنَّكم)، وكشف للجهود التي بذلت، والليالي والأيام والأعوام التي سُهِرتْ، والساعات الطوال التي قُضِيَتْ، والأساليب الدعوية التي قُدِّمَتْ؛ حتى آمن الناس، ودخلوا في دين الله أفواجا، وكَثُروا، وزاد عددهم مع أنبيائهم، ورسلهم، وقد وضَّحت جهودهم تلك ضمةُ الدال في:(تَعُودُنَّ) في ملتنا، فعلى القارئ الحصيف أن يُحْسِنَ فهمَ كل تلك القواعد النحوية، ويقف على أنواع نون التوكيد المباشرة، وغير المباشرة، ويتعرف خصائص كل منها، وضوابطه، وسياقاته، وطبيعة المناديات، ودلالة الظروف، ودلالة نون التوكيد في مواضعها من الآيات، والتعرف على نوعيها مشددة ومخففة، ومباشرة وغير المباشرة، وما وراء ذلك كله من دلالات، وما يختبئ وراءه من المعاني، والقيم، والتكاليف الشرعية، وما يحمله من جهود، وتعب، وضنًى، وسهر، وما يتضمنه من سبل الدعوة، ومن طرائقها، ويتعلم كل ذلك، ويقف عليه؛ ليتذوق جمال وكمال وجلال وبهاء كلام الله ـ جلَّ جلاله.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.

[email protected]