محمود عدلي الشريف:
جميعًا ندرك أن الله تعالى خلق الإنسان وكمّله، وأحسن صورته وجمّله، وعلى كل الخلائق كرّمه وفضّله، كما أنه سبحانه جعل له الضوابط التي تُصلحه وتُحسن من حاله، فأعطاه العقل والتمييز ليعرف ربه، ويتدبر أمره، ويصلح من شأنه، فإذا حاف بعقله وضل عن طريقه، أرسل إليه الأنبياء والرسل ليوقظوه من سباته، وينبهوه من غفلته، ويرشدوه إلى ما استقام من طريقه، وأنزل إليهم الكتب والصحائف وأودعها الشرائع بالضوابط والتعاليم، لتكون شمسا مضيئة تنير له ظلام دنياه، وسفينة تمخر عباب بحر شهواته المتلاطم، فبشرع الله تستقيم نفس الإنسان، وتعثر على مبتغاها، وترسو على شاطئ الإيمان سفنته الحائرة بين الهوى والشيطان، وهكذا أوضح الله تعالى لعباده الصراط المستقيم لعباده عبر كل زمان ومكان، وكان من حكمة الله تعالى أن يتبع الحق القليل من الخلق، وأن يضل عن الحق من هم أكثر.

ولهذا جعل الله تعالى لأهل الحق والتوحيد ما يميزهم عمن سواهم في الدنيا والآخرة، ولقد ميَّز الله تعالى الأمة الخاتمة أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) واصطفاها عمن سواها في كل أمورها، فقد اصطفاها الله تعالى في دينها وزمنها وصفتها وأوصافها، بل وجعل لها الخيرية، وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(كنتم خير أمّةٍ..) قَالَ: إِنَّكُمْ تَتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) (الجامع الصحيح للسنن والمسانيد 18/ 183)، قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ كَثِيرٍ:(يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَأَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وإِنَّمَا حَازَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَصَبَ السَّبْقِ إِلَى الْخَيْرَاتِ بِنَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَإِنَّهُ أَشْرَفُ خَلْقِ اللهِ، وَأَكْرَمُ الرُّسُلِ عَلَى اللهِ، وَبَعَثَهُ اللهُ بِشَرْعٍ كَامِلٍ عَظِيمٍ، لَمْ يُعْطَهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وَلَا رَسُولٌ مِنْ الرُّسُلِ، فَالْعَمَلُ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسَبِيلِهِ، يَقُومُ الْقَلِيلُ مِنْهُ مَا لَا يَقُومُ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ مِنْ أَعْمَالِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ) (تحفة الأحوذي ج 7 / ص 321)، وذكر الطبري في تفسيره في حديث طويل عن أبي هريرة .. قالَ: (ثُمَّ لَقِيَ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَثْنَوْا عَلَى رَبِّهِمْ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اتَّخَذَنِي خَلِيلًا وَأَعْطَانِي مُلْكًا عَظِيمًا، وَجَعَلَنِي أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ يُؤْتَمُّ بِي، وَأَنْقَذَنِي مِنَ النَّارِ، وَجَعَلَهَا عَلَيَّ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى أَثَنَى عَلَى رَبِّهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَلَّمَنِي تَكْلِيمًا، وَجَعَلَ هَلَاكَ آلِ فِرْعَوْنَ وَنَجَاةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدِي، وَجَعَلَ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَثَنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لِي مُلْكًا عَظِيمًا وَعَلَّمَنِي الزَّبُورَ، وَأَلَانَ لِيَ الْحَدِيدَ، وَسَخَّرَ لِيَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَأَعْطَانِي الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَخَّرَ لِيَ الرِّيَاحَ، وَسَخَّرَ لِيَ الشَّيَاطِينَ، يَعْمَلُونَ لِي مَا شِئْتُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ، وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ، وَعَلَّمَنِي مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَآتَانِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَضْلًا، وَسَخَّرَ لِي جُنُودَ الشَّيَاطِينِ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآتَانِي مُلْكًا عَظِيمًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَجَعَلَ مُلْكِي مُلْكًا طَيِّبًا لَيْسَ عَلَيَّ فِيهِ حِسَابٌ. ثُمَّ إِنَّ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي كَلَّمْتُهُ وَجَعَلَ مَثَلِي مَثَلَ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَعَلَّمَنِي الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَجَعَلَنِي أَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَجَعَلَنِي أُبْرِئُ الْأَكَمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَرَفَعَنِي وَطَهَّرني، وَأَعَاذَنِي وَأُمِّي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْنَا سَبِيلٌ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَثَنَى عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: "كُلُّكُمْ أَثَنَى عَلَى رَبِّهِ، وَأَنَا مُثْنٍ عَلَى رَبِّي"، فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْفُرْقَانَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَجَعَلَ أُمَّتِي وَسَطًا، وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الْآخِرُونَ، وَشَرَحَ لِي صَدْرِي، وَوَضَعَ عَنِّي وِزْرِي وَرَفَعَ لِي ذِكْرِي، وَجَعَلَنِي فَاتِحًا خَاتَمًا" قَالَ إِبْرَاهِيمُ: بِهَذَا فَضَلَكُمْ مُحَمَّدٌ) (جامع البيان، ط: هجر 14/ 427).

فالأفضلية والخيرية لا تخفي على أحد، ولهذا ينبغي على المسلم أن يكون محلا للنظر والاقتداء، بشخصيته المسلمة المتكاملة في الذات والسلوك، والمسلم الحقيقي ينبغي أن يعلم أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فلا تغره مظاهر ولا تستهويه مناظر، فهو في قوة ومنعة من دينه، تجعله في اكتفاء ذاتي في داخله وفي خارجه بل وفيما حوله، فأما عن ذاتيته المتكاملة، فهو مستقر الفؤاد مطمئن القلب، يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويدرك أن مع العسر يسرا، وعلى يقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن طعامه وشرابه وكل متطلباته قد تكفل بها ربه من أذن له أن يولد على أرضه فلطالما أقلته أرضه وأظلته سماءه فهو في كنف الله وليس من رب سواه، فالمسلم من داخله مملتئ بالنور واليقين والحق الهدى والاهتداء، وأما عن المظاهر فالمسلم لا يقلد ولا يقتدي إلا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام والعلماء المخلصين العاملين من سلف الأمة وحاضرها، فلا يقلد ولا يقتدي بغيرهم في ملابسهم ولا هيئاتهم من نقوش أو أوسمه أو رسومات أو زينات أو غيرها، فلا يرتدي أو يصنع إلا ما يرتضيه له دينه وهويته وعربيته، غير مبال بما يفعله غيره مما يرى، فنحن المسلمون لا نقلد غيرنا، ولنكن أحرص الناس على هويتنا وعربيتنا فضلًا عن ديننا الذي شرّفنا الله تعالى به، ولهذا أهيب بشبابنا وبناتنا ورجالنا ونسائنا وكبيرنا وصغيرنا وذكورنا وأنثانا أن لا يقلدوا أحدا مما لم تألفه بيئاتنا وأعرافنا، فالعالم كله غرفة صغيرة، وأقول لهم احذروا التقليد؟! احذروا التقليد؟! فلدينا تكامل في كل جوانب حياتنا، مما يدعو غيرنا أن يقلدنا وليس العكس، وأقول لمن يحب التغيير بغير قيود انبهارا بما يرى من بهرج واستهواء، أقول لهم استقيموا يرحمكم الله، فكيف يطيب لمسلم أن يلبس قلادة أو يتختم بالذهب أو ينقش على جسده الوشم والرسومات أو يلبس ما لا يليق به خاصة ما يكشف أو العورات أو يجسدها، فبتقليد غيرنا نقتل أنفسنا ونأد هويتنا في مهدها، بل ونجني على مستقبل أولادنا فلو انخرطنا في التقليد لانصهرت قوتنا ولاضمحلت سحابتنا ولتغيرت ملامحنا، فتنشأ عن هذا أجيال تائهة لاهي إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهي ـ في رأيي ـ جريمة بكل المقاييس في حق أنفسنا، بل لابد أن نرضى بما أتمه الله لنا من كمال لديننا وسلوكياتنا متمثلة في كتاب الله وسنة رسوله الكريم ـ صلوات ربي وسلامه عليه.

فاحذروا التقليد ـ أخواني الكرام ـ فنحن لا نحتاج ـ كما ذكرت آنفًا ـ إلى نتقدم به، فالقرآن الكريم قد علّم العالم، ولا يزال العلم الحديث يلهث باكتشافاته خلّف معجزاته التي لا تنتهي، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.

[email protected]*