د. أحمد مصطفى أحمد:
تشهد الولايات المتحدة تصعيدا واضحا في حوادث إطلاق النار في المدارس والجامعات ومراكز التسوق، والأماكن العام عموما، في الآونة الأخيرة. وربما كان أبرزها قبل أيام إطلاق تلميذ النار في مدرسة ببلة في ولاية تكساس ليقتل أكثر من عشرين ضحية جلهم من التلاميذ. لم أستغرب الانتقادات التي وجهت للشرطة الأميركية التي وصلت للمكان، لكنها لم تتدخل إلا بعد انتهاء إطلاق النار ومقتل الأبرياء. فتلك ممارسة معتادة من الشرطة الأميركية، خصوصا في حوادث تتضمن أسلحة نارية. ولا يصدق أحد ما نشاهده في الأفلام والمسلسلات الهوليودية عن إقدام الشرطة في الاقتحام والتدخل. ذلك أني خبرت هذا الأمر مباشرة في نيويورك في أولى زياراتي لأميركا قبل ثلاثة عقود، إذ شاهدت تبادل إطلاق نار (على ما يبدو بين عصابات) في شارع قرب حي هارلم وظلت الشرطة بعيدا حتى توقف إطلاق النار فدخلت مكان الحادث.
الشرطة إذًا لا تستطيع منع القتل العشوائي، خصوصا مع انتشار السلاح بين الأميركيين، وهو حق يكفله الدستور وفشلت كل المحاولات السابقة ـ التي تتكرر بعد كل مذبحة مفجعة ـ في الحدِّ من امتلاك الناس العاديين للسلاح. ليس فقط بسبب الحقِّ الدستوري، إنما لأن هناك لوبيًّا قويًّا جدًّا يمثِّل صنَّاع الأسلحة والمدافعين عن حرية امتلاكها هو "رابطة البندقية الوطنية". هذا اللوبي يموِّل حملات السياسيين الأميركيين في الكونجرس ومجالس الولايات بأموال طائلة ضامنا ولاءهم بالكامل. وكل ذلك في إطار القانون. حادث تكساس الأخير، وفضلا عن أن ضحايا المذبحة من التلاميذ الصغار، تزامن مع انعقاد المؤتمر السنوي لرابطة السلاح، والمفارقة أن الاجتماع يحظر دخوله بالسلاح. وزاد ذلك من سخونة الجدل في أميركا حول ضوابط حمل المواطنين للسلاح، ويدفع الحزب الديموقراطي الحاكم باتجاه محاولة تشريع قانون في الكونجرس يحد من انتشار السلاح بين الجماهير. بالطبع، لا يمكن ضمان أن تنجح هذه المحاولة على عكس سابقاتها، رغم بشاعة مجزرة تكساس.
المثير حقا، كان تصريح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي يعارض الحدَّ من حمل المواطنين الأميركيين للسلاح، مقترحا تسليح المدارس كوسيلة للوقاية من تكرار تلك الحوادث. طبعا يُعد حزب ترامب، الحزب الجمهوري، أكثر تأييدا لحق حمل السلاح ويحظى بدعم قوي من رابطة السلاح. لذا ذهب ترامب في هجومه على إدارة بايدن الديموقراطية بانتقاد إرسال الأسلحة بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا مطالبا بأن يوجه ذلك الدعم للأميركيين؛ أي مزيد من الأسلحة بين الجماهير الأميركية. طبعا من السهل الرد على اقتراح ترامب بأن زيادة انتشار السلاح يزيد من احتمالات العنف المسلح بين الجماهير ولا يوقف الحوادث. ليس فقط، في المدارس والجامعات، بل في كل المواقع العامة. لكن تصريحات ترامب لها جمهورها، الذي يقارب نصف الشعب الأميركي، وهو يخاطب تلك القاعدة الانتخابية له للحزب الجمهوري.
إنما النتيجة قد تتجاوز كل الصراعات السياسية الحزبية، خصوصا مع تصاعد تيارات اليمين المتطرف وعنصرية البيض من النازيين الجدد وغيرهم وما يقابلها من عنف الجماعات الأخرى من الملونين من العرقيات المختلفة. تلك الموجة من التطرف والعنصرية زادت في فترة رئاسة ترامب، وبرزت ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في كثير من الدول الغربية. وربما ذلك ما حدا صحيفة مرموقة مثل الفاينانشيال تايم لأن تنشر تحقيقا مطولا في عددها الأسبوعي بعنوان "هل تتجه الولايات المتحدة نحو حرب أهلية؟". فانتشار السلاح الأميركي ليس بجديد، إنما الجديد هو بروز تلك الجماعات اليمينية المتطرفة وتصاعد ممارساتها العنصرية. وبما أن السلاح في متناول الجميع، فالمنطقي أن يكون رد الفعل من الأميركيين من أصل إفريقي أو من الكاريبي أو آسيوي أو إسباني ممَّن يتعرضون لعنصرية البيض ردا بالعنف المسلح أيضا.
المفارقة المرة في تصريح دونالد ترامب، هي أن الأميركيين أولى بالسلاح من الأوكرانيين. وإن كان المرء لا يتصور أنه يقصد الإشارة إلى التماثل بين الحالتين، فالرجل معروف عنه تفاخره بالجهل على عكس بايدن الذي وإن لم يكن بجهل ترامب، لكن مشكلته أنه لا يركز كثيرا على ما يبدو. لكن التماثل موجود فعلا، فما يجري في شرق أوروبا من حرب الروس في أوكرانيا يكاد يكون "حربا أهلية"؛ بمعنى أن القتال بين عرقية قوقازية واحدة، سواء كانوا روسًا أو أوكرانيين. (أو من باب السخرية المرة، لنستخدم تعبيرات الإعلاميين العنصريين في الغرب: كلهم شقر وعيونهم زرق). وبالتالي السلاح بينهم كالسلاح بين الأميركيين، مع فارق طبعا أن رابط الهوية الأميركية أضعف في الولايات المتحدة من رابط العرقية واللون والجنس. لذا فحرب السلاح الأميركي بين الأميركيين وبعضهم يمكن أن تكون أسوأ مما يمكن أن تراه في أي بلد آخر. طبعا لا يعني كل ذلك، أن ذلك أمر وشيك أو أن الولايات المتحدة ليس لديها من الأدوات ما يمكنها من الحيلولة دون انزلاق الأمور إلى هذا الحدِّ. لكن تساؤل الفاينانشيال تايمز يبدو منطقيا أيضا، خصوصا مع احتمالات عودة ترامب للحكم، أو ربما من هو أكثر منه شططا من الجمهوريين. وساعتها ستحتل الولايات المتحدة ريادة من نوع آخر تماما، ليس فقط للعالم الغربي بل في العالم كله.