ليس هناك من استثمار أعظم من ذلك الذي يمس وبشكل مباشر العقول، ففيه وبه تنهض الأوطان وتزدهر الأمم وتسجل علامات بارزة على طرق التقدم الإنساني، إلا أن هذا الاستثمار يظل ناقصًا أو بالأحرى منقوصًا إذا لم يحقق الأهداف والغايات من نشر مظلته رأسيًّا وأفقيًّا، واعتماد الميزانيات والمخصصات المالية الهائلة، وإذا لم يكن هذا الاستثمار قادرًا على إعداد أجيال قادرة على قيادة قاطرة البناء والتقدم والتطور الحضاري والإمساك بصولجان المبادرة وخوض المغامرات والاعتماد على النفس. كما أنه استثمار لا يرقى إلى مستوى الوصف إذا لم يحقق الاستراتيجيات والفلسفة من ورائه. بل إن النجاح في عملية الاستثمار هذه وتحقيق عائدات كبيرة منها، يعبر عن سلامة الخطط ونجاحها ورقي الفكر وعلو كعب واضعي الاستراتيجيات التعليمية في كيفية صياغة وإعداد المناهج التعليمية التي تتواكب مع المستوى العقلي والفكري والسني في كل مرحلة من المراحل التعليمية، وتلائم الرغبات والميول وتحققها، وتراعي الفروقات الفردية لدى طلاب العلم والتي تتطلبها مراحل البناء الحالية واللاحقة، ما يؤكد الحقيقة الثابتة وهي أن الشعوب الناضجة هي التي تبني حضارتها بالعلم والعلماء والباحثين المبدعين في مختلف المجالات الذين تترجم عصارات عقولهم إلى تطور وتنمية ووضع حلول لكل ما يواجه الحضارة الإنسانية من عقبات.
ووفقًا لذلك، لا تزال حكومة السلطنة تبذل جهودًا حثيثةً لتطوير مسار التعليم وإعادة بناء هيكليته ومنظومته ليتفق مع ما تنشده الحكومة من خطط وسياسات، ومع ما يتطلبه سوق العمل وعمليات الإنتاج. ومقترح مراجعة مراحل ومسارات التعليم في السلطنة الذي وافق عليه مجلس الدولة في جلسته الاعتيادية السادسة لدور الانعقاد السنوي الرابع من الفترة الخامسة والمقدم من لجنة التعليم بالمجلس، يؤكد أن تعديل مسار التعليم وتحديثه وتطويره غدا يشكل مطلبًا ملحًّا، بل هدفًا استراتيجيًّا للتغلب على التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، حيث جاءت هذه الدراسة تنفيذًا للتوجيه السامي بمراجعة سياسات التعليم في السلطنة وفي إطار التعاون القائم بين مجلس التعليم ومجلس الدولة.
ومضمون الدراسة لامس الواقع واحتياجاته ووقف على مفاصل التطوير والتحديث المطلوب والتي قال معدوها إنهم بنوها بعد اطلاع واسع على تجارب بعض الدول المتقدمة في مسارات التعليم وعقد لقاءات متعددة مع مسؤولين ومختصين في قطاع التعليم، وزيارات لعدد من مؤسسات التعليم العالي الحكومية (العسكرية والمدنية) والخاصة بهدف الاطلاع على تجاربها وطريقة عملها ومسارات التعليم المعتمدة بها، حيث شمل المقترح استحداث مرحلة التعليم ما قبل الأساسي في السلم التعليمي، واستحداث نظام المسارات بدءًا من الصف العاشر، وبناءً على رغبات وميول وقدرات الطلبة مع إمكانية الانتقال والتجسير بين تلك المسارات، وأن يتضمن التعليم ما بعد الأساسي ثلاثة مسارات: التعليم الأكاديمي، والتعليم (المهني ـ التقني)، والتدريب المهني، وأن يتضمن التعليم العالي مسارين مستقلين وهما: مسار التعليم الأكاديمي ومسار التعليم التقني/ التطبيقي.
وبالنظر إلى تلك المقترحات فإن من شأنها أن تتغلب على التحديات القائمة، سواء من حيث الضعف القرائي والكتابي إذ من شأن مرحلة ما قبل التعليم الأساسي أن تتكفل بعملية المعالجة والإعداد، أو من حيث صعوبة الاختيار في مواد الدراسة في مرحلة ما بعد الأساسي، والحيرة التي عادة ما تتملك الطالب في اختيار المواد العلمية والأدبية، فهو على سبيل المثال قد يميل إلى مادتين علميتين ولا يميل إلى البقية الأخرى، وكذلك الحال بالنسبة للمواد الأدبية، فمواكبة هذه الرغبات والميول وتحقيقها تمكِّن من كسب هذا الطالب أو بالأحرى الاستفادة من هذه الطاقة بعد تعليمها وتحقيق رغباتها وتدريبها وتأهيلها وإعدادها، بدل أن يكون طاقة معطلة جراء عقم عملية التعليم.
ومن المهم جدًّا الوعي بأن الاستفادة من هذه الطاقات يعني أن الأموال التي أنفقت على تعليمها لم تذهب هباءً منثورًا، فالتعليم هو الحل الأكيد لحالة القلق الاقتصادي إذا ما أحسن تنظيمه وتطويره وبناء استراتيجياته.