نجوى عبداللطيف جناحي:
يهتم الآباء بمستقبل أبنائهم ويحرصون على اتخاذ جميع السبل لتوفير احتياجاتهم الأساسية، وليؤمنوا مستقبلهم، وفي الوقت نفسه يهتم الآباء أن يفعلوا الخير لينالوا الأجر والثواب في الآخرة، لذا عندما ينشغل بالهم بهذين الهمَّين: همُّ بناء مستقبل الأبناء، وهمُّ الحصول على الأجر وعلو المتربة في الآخرة، هنا يكون حل هذه المعادلة المعقدة في الوقف الذري، فيوقفون بستانا أو دارا أو غيرها من الأصول الثابتة فيسد احتياجات أبنائهم وأحفادهم ويحققوا الأمان لأبنائهم، وفي الوقت نفسه يحصل على الأجر والثواب نتيجة فعل الخير، فأجر الوقف يستمر حتى بعد الموت؛ باعتباره صدقة جارية، فهو يدخل في عموم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَة، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) رواه مسلم، وفي هذا الحديث حثٌّ وترغيب في أعمال باقية لا ينقطع ثوابها بعد موت صاحبها، ويدخل في ذلك الوقف الخيري والوقف الذري، ويكون للوقف الذري الأثر البالغ في تأمين احتياجات الأبناء والأحفاد جيلا بعد جيل إما بتوفير سكن لهم أو بتوفير عقار يدر أرباحا يستفيد منها الأبناء والأحفاد، وتعود بالأجر والثواب على الواقف حتى بعد موته.
ولكن قد تقف هذه المنفعة فلا يستفيد الأبناء من الأوقاف الذرية، وقد لا يصل الأجر للواقف بعد موته نظر لتعطيل الفائدة من الوقف، ومما يسبب تعطيل الفائدة من الوقف الذري النزاع الذي قد يكون بين الموقوف عليهم من الأبناء والأحفاد لطريقة الاستفادة من الوقف، فقد يختلفون مع ناظر الوقف الذي عينه الواقف؛ لأنهم يرون أنه يسيء استغلال الوقف ويمنع الفائدة عنهم، أو قد يختلف الموقوف عليهم على طريقة الاستفادة من الوقف، فيكبر الخلاف ويتفاقم وقد يؤدي إلى حدوث الشقاق بين الإخوة والأقارب، وتمتلئ القلوب غلا وحقدا وتثار الضغينة بينهم، وقد يصل الأمر إلى قطيعة الرحم بين الإخوة والأحفاد، فينقلب فعل الخير إلى شر، وتضيع الغاية التي سعى لها الواقف من تقديم النفع لأبنائه وأحفاده، فبدلا من تحقيق المنفعة تقع المفسدة، وقد تتراءى لمن يحكم بين المتنازعين على هذا الوقف، تلك القاعدة الفقهية التي تقول "دفع المفسدة مقدم على جلب المنفعة". وهنا نقول على الواقف أن يقي أبناءه وأحفاده الموقوف عليهم هذه الخلافات بوضع ضوابط إيضاحات في عقد الوقف تجنب أبناءه هذه الخلافات أو على الأقل تخففها، وفيما يلي نذكر أهم الأمور التي يجب أن يراعيها الواقف لتجنب النزاع بين الموقوف عليهم من الأبناء:
على الواقف أن يضع ضوابط ومعلومات تفصيلية حول أركان الوقف، كأن يحدد الموقوف عليهم؛ أي المستفيدين من الوقف بوضوح، فالبعض يذكر أن المستفيدين من الوقف الذري هم الأبناء الذكور من الأبناء والأحفاد المحتاجين فقط، ولا يوضح كيف يكون التصرف إذا لم يكن هناك أبناء من الذكور محتاجون أو قد لا يوجد أحفاد ذكور في الأجيال التالية، فهل تنتقل المنفعة إلى الإناث من الأحفاد إن كان من بينهن محتاجات، أو يتحول لوقف خيري، ولم يذكر قصده من كلمة المحتاج، فهل الحاجة تكون الاحتياج المادي أو قد يكون الحاجة لتسهيل الأمور كأن يكون هذا المنزل قريبا من مكان عمله أو قريبا من بيت والديه فيكون وجْه الحاجة تسهيل الأمور وليس الحاجة المادية، وإن رأوا ألا تنتقل المنفعة للإناث فيتحول الوقف لوقف خيري، فعلى الواقف أن يحدد الموقوف عليهم في مثل هذه الحالة، وباختصار على الواقف أن يضمن عقد الوقف تنظيم إدارة الوقف في مختلف الظروف ويحتسب افتراضات مختلفة؛ كي لا يترك ثغرة للخلافات.
ومن أسباب الخلاف على الوقف الذري عدم الثقة في ناظر الوقف، أو الخلاف في تحديد ناظر الوقف، وهنا أرى أن الحل هو أن يعين إحدى الشركات المختصة في إدارة الوقف (نظارة) حيث بدأت تنتشر في السنوات الأخيرة شركات مختصة لإدارة الوقف، أو تجد بعض المصارف تفتح محافظ خاصة باستثمار الأوقاف.
وفي تقديري أن أفضل السبل التي تقلل الخلافات بين الأبناء والأحفاد على الوقف هو أن يضع الواقف شرطا في عقد الوقف بأن يستثمر الوقف ويوزع ريع استثماره على الموقوف عليهم، فيستفيد أكبر عدد ممكن من الموقوف عليهم، كما يحقق العدالة في توزيع ريع استثمار الوقف الذري، وفي هذه الطريقة فرصة أكبر للحفاظ على العين الموقوفة وتحقيق المنفعة منها.
وأخيرا، لا بُدَّ من وجود جهات تختص في الفصل في النزاعات في مجال الوقف لتأمين سرعة الفصل في هذه الخلافات كإيجاد محاكم متخصصة في الفصل في قضايا الوقف، وتدعم هذه المحاكم بخبراء ماليين ومحاسبين مختصين في مجال الوقف، أو إيجاد غرف تحكيم النزاع في مجال الوقف، فالتعجيل في الفصل في النزاعات يجنب المتخاصمين طول الخلافات وتغليظ القلوب واتساع الفجوة بينهم... ودمتم أبناء قومي سالمين.