(الإعجاز في الصوت وصفاته)
د. جمال عبد العزيز أحمد:
من وجوه الإعجاز القرآني الإعجاز كذلك الإعجاز في اختيار الحرف، ذي الصوت المتناغم مع السياق، والمتماشي مع المعنى المراد في الآية المسوقة في محلها، وهنا لابد أن يراجعَ القارئ الكريم صفاتِ الحروف من حيث: الشدة واللين، والجهر والهمس، والاستعلاء والاستفال، والتفخيم والترقيق، والانفتاح والانطباق، والصفير، ومن حيث القلقة، والتفشي، ويتعرف على الحروف ذاتها التي تتصف بتلك الصفات، وهنا أحاول أن أبيِّن وجهَ الإعجاز في اختيار الحرف، ومواكبته معناه، وتساوق سياقه مع الدلالة القرآنية المرادة؛ حتى نقف على نقطة من بحور الإعجاز في اختيار الحرف بصوته المتناغم مع السياق الذي سق له، والدلالة التي جاء ليعمِّق معناها، ويرسِّخ مقصدها، ومرماها، يقول الله تعالى:(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الانفال ـ 57).
الموقفُ هنا موقفُ حربٍ، وَكَرٍّ وفَرٍّ، وبيان الأقوى في ميدان القتال، ومَنْ يصمد، ومَنْ يهرب، ومَنْ يريد الشهادة، ومَنْ يريد الدنيا، ويعمل لها، وهنا استعمل القرآن الصوت الذي يناسب الحربَ، والانتشار، فقال أولًا:(فإما تثقفنهم) أيْ: تلتقي بهم، وتتواجهون في الميدان، وتصيرون قريبين، تتراءون وجهًا لوجه، فالفعل قد دخله التوكيد:(تثقفنهم) هذا الفعل الواقع بعد (إما) حيث يكثر توكيده بالنون، وبعض النحويين أوجب توكيده بعد (إما) لكثرته في القرآن الكريم، مؤكَّدًا بعد(إما) التي رُكِّبَتْ من(إنْ+ ما) فأصلها:(إنْ) الشرطية، و(مَا) التي أُدْغِمَتْ فيها، فصارت (إِمَّا) بكسر الهمزة، وتشديد الميم مفتوحة، ثم جاء الفعل:(تثقفنهم) مضارعًا مفيدا للاستمرار، ثم أُكِّدَ بالنون، لبيان التواجه الشديد والمحتوم في الميدان، ولقاء الأعداء المؤكد، وأن هذا التواجه واللقاء حتم، واقع، ويُوحِي بقوة المواجهة، وشراسة اللقاء، وأنه مجتمعون على ذلك لا محالة، ولكنهم (أي: الكفار) ذوو قلوب نَخْبَة هواء، سرعان ما يطلقون أرجلهم للريح، ويفرون هاربين أمام تلاحق الضربات، وإثخان جراحِهم، وهنا عبَّر القرآن الكريم عن القوة، والبأس الباديين من المؤمنين أهل حب الشهادة، والذين باعوا أنفسهم لربهم، عبر عن سلوكهم الراقي بقوله:(فَشَرِّدْ) بتشكيلته الصوتية، وصيغته الصرفية، حيث جاءت أولا فاء الجزاء وهي الفاء الواقعة في جواب الشرط، وهي المفيدة للسرعة، وحرف الشين الذي فيه صفة التفشي، والانتشار، والتفشِّي في اللغة يعني الانتشار، وفي الاصطلاح يعني انتشار الريح، أو الهواء في الفم عند النطق بهذا الحرف، والتفشي له حرفٌ واحد، هو الشين، وهذا يعني أن تنتشر من الكافرين والمشركين أشلاؤهم في كلِّ مكان، من قوة الضرب، وشدة وقع السيف، واحمرار الحُدُقِ، واحتدام المعركة، وحينما يحمَى الوطيسُ، ويتفتت العدوُّ، ويتشتت، وينتشر في كل مكان: فزعا، وهلعا، وخوفا، وجريا، فيجد السيوف تتلقاه من كل مكان، والرماح تتخطفه من كل ناحية، وتحصده النبال من كل حدب وصوب(وبالطبع بالمفهوم المعاصر تنسفه القنابل، وتسويه بالأرض الطائرات التي ترصد الأنفاس في أرض المعركة، وتجعله الدبابات والمدرعات أكواما من التراب المحترق)، وتتحقق فيه صفة الانتشار، سواء أكان ذلك تقتيلا وتشريدا، أم هروبًا وتبديدًا، فجاءت (الشينُ) بصوتها المتفشِّي، الخارج من بين الأسنان العليا والسفلى، وينتشر خارجًا من أنحاء الفم؛ ليخرج في كلِّ مكان، ليظهر لنا منظر هؤلاء الصرعى المُفَتَّتِينَ، (كأنهم أعجاز نخل منقعر)، ثم تأتي الراء، وهي حرف التكرار، وتأخذ صفة التكرار، وهي ـ كما يقول السنهوري في كتابه صناعة التجويد:(التكرار إعادة الشيء وأقلّه مرة)، والتكرار صفة ملازمة لحرف الراء، تأتي معه عند النطق به، ولا سبيل إلى التخلص منها، وقد ذكر المرادي في كتابه:(المفيد في شرح عمدة المجيد في النظم والتجويد)، قال:(والتكرار صفة الراء؛ لارتعاد طرف اللسان عند النطق به، وأظهر ما يكون في المشدَّد، وظاهر مذهب سيبويه أنّ التكرار صفة ذاتية للراء، وإليه ذهب شريح)، ومعنى هذا أن هذا التشريد لهم، وتفتيتهم، ودعْكهم في أرض المعركة يتكرَّر تكرُّر الراء، ويكونون عبرة لغيرهم ممَّن تسوِّل له أنفسهم لقاء المسلمين الأُسُودِ في ميادين القتال، فنتخيَّل الراء وكأنها وقع السيوف البتارة متكررةً على أجساد الكفار، حتى لا تبقي من أجسادهم شيئا؛ ولذلك استحسنوا قول امرئ القيس في وصف سرعة فرسه، وشدة عدوه حين استعمل الراء في قوله:(مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبل مدبر معا .. كجلمود صخر حطه السيل من علِ).

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]