على هذا النحو تبحث الذات عن إرتكازة تخلق لها نوعًا من التوازن , وهي تعيش حالة إنطفاء الحاضر , لتفتح أمامها عوالم أخرى بعد أَن شعرت بالعجز . وقد اجادت الشاعرة في رسم افعالها المتوالية في بطن القصيدة , فهي تنظّم خطابها وفقًا لدلالة المعرفة وتأصيل الذات بتحريض مستمر , إنكشف أمام الذات , وجعلها أسيرة لحظات من الشتات الذي خلقه الزمن الجديد , فالخيوط المتنامية للأفعال : ( نمشي / تنعت / نتوه / نقلّب / نغدو / تقيّدنا / لنلهو / ويمضي ) كلها إخصاب لحالة الفقد , وتأسيس لعلاقات جديدة ترمز لسلطة الزوال . وهذه القاعدة في المعنى هي التي تؤسس لإستراتيجية الاستسلام .
ويبدو واضحًا , أنَّ الشاعرة قد اختارت زمنًا غير زمنها , ولم يكن هذا الاختيار عشوائيًا , وفي ذلك إشارة إلى رغبتها في رمي الحاضر وراءَها وعدم الالتفات إليه ؛ لأنه يمثل وهمًا تبدو فيه عناصر النفور واضحة . من هنا فأنَّ مسافة التوتر في قصيدة هاشمية الموسوي عبارة عن محاولة لكسر حواجز الانجذاب لهذا الزمن , والابقاء على فضاء الحلم بعيدًا عن قناع المكابرة . هكذا تمضي بنا الشاعرة إلى مجموعة من الدروس والعِبر لبناء تجربتها المعبّأة بكل هذا الجفاء والنفور , الأمر الذي يبدو جليًا , أنها تحكم خيوط لعبتها من دون أن يشعر القارئ بفراغ أو حيرة , وهو يتنقّل في فضاء حلمها الموعود :
إنهض فما عادتْ جيوش
ترتوي من ناقلات العيد والحلوى وأرصفة المتاع
قد أصبح الحلم بهيجًا يرتدي قصص الضياع
ما عادَ للآمال فجر إنما غارات حرب تتخفّى في قناع
قد صادرتنا جلّ أشرعة المواني والقصائد فجةً لا تُحتمل
في القلب أنت وبين اوردة المنافي قرب هاتيك المقل
فمن نُبشَّرُ في الوجود وفي السماء مناديًا قمرٌ أطلْ .
إعتمدت الشاعرة على فعل الأمر ( إنهض ) لتؤسس لحوارها شيئًا من الهالة في ذهن المتلقي , بيد أنّ القارئ العادي , كثيرًا ما يذهب بعيدًا , وهو يفسّر ملامح هذه المعادلة التي تكسّرت بها رتابة الحلم :
قد أصبح الحلم بهيجًا يرتدي قصص الضياع
وهنا ساهمت الشاعرة في إبراز دور ( الآخر ) المكلّف بالنهوض, لخطورة الأمر , فالحلم الزائف الذي صنعته ( الأنا ) هو الذي يكشف لها دائمًا إشارات وهمية , ويفترض حلولًا لا وجود لها
ما عاد للأمال فجر إنما غارات حرب تتخفّى في قناع
أي أنّ كل تمفصلات الحكي الذي جاءَ به الحلم , إنما هو نزعة وهمية ازدادت بها المسافة الفارقة بين الذات والآخر , غير أنَّ هذا لا يمنعنا من القول إنَّ ثمّة طاقة تخييلية هي التي تخلق نظامًا تعويضيًا داخل النص , وهذا يمكّن الشاعرة من الإستدلال , ولو لبرهة , على أكتشاف مكامن القوة والضعف في كيانها المنهار , وهي التقنية الغالبة في أغلب قصائدها , ويظهر ذلك من خلال توظيفها للأفعال بأبعادها الثلاثة , وهو ما يتناسب وقصدها , فهي بصدد استرجاع شيء كانت قد فقدته , ليكون – عندئذ – زمن الحكاية أكبر من زمن القصد .
ومثلما كان استرجاع الشاعرة لأحلامها , كان الاستباق في وصفها على أنها ( علامة كبرى ) تريد الاتكاء عليها , للقفز على الواقع , وتجاوز نقطة البداية التي وصلت إليها , للاستشراف على ما يحصل من أحداث قادمة . بيد أنَّ راهن القصيدة عند هاشمية الموسوي ينبني على إزاحة ثوابت , وإحلال أخرى بدلها , وهذا القفز في المضمون , هو لتقريب المسافة بينها وبين حلمها الذي تؤثّث له الكثير من علامات البوح , لتلتقط من خلاله شيئًا من بذار الماضي بإستفهاماتٍ مخيفة :
هل قرب أوراق النهاية مأتمٌ
هل أُغلقت كل البدايات المهولة , أُطفئتْ قصص الطفولة
هل بين احلامي الكئيبة والخيالات العتيقة سلّمُ
هل في انكسار الضوء أوراقٌ تمزّقنا وتهوى الأنظمة
عبثًا نعيش بها وفوضى الأمكنة
وربيع عمر قد مضى يرتادُ ليل الأزمنة .
إنَّ حاجة الذات إلى شيء من الفرح , هو الذي دعاها أن تُسقط كل ما بذاكرتها من هذه الإنكسارات , وكأني بها ساكنة من دون حركة , فنراها تعكس لنا حالة الفراغ المهيمن بتساؤلات توثّق رؤيا الإقصاء , وهذا يشكّل في رأينا , ثورة واحتجاجًا على اضطراب الحياة , واحساس بالخوف على المستقبل الذي تنشده الشاعرة :
هل بين أحلامي الكئيبة والخيالات العتيقة سلّمُ
فطرح البدائل المعرفية , والتكيّف معها هو ما تسعى إليه الذات . فــ ( سلّمُ ) جاءت لبناء جسر جديد يستأصل كل هذه المعاناة , وهو ذاته مَعْبر أرادته الشاعرة , لتعبر من خلاله إلى ضفة الفرح التي نادت بها كثيرًا واجهدت نفسها المكابرة في الوصول إليها , فهي تريد أن تخلق لنفسها شيئًا يكون له قيمة , ردًّا على كل مشاعر الاحباط والانظلام , فضلًا عن أحاسيس الخوف على المستقبل .
ومهما كانت الأرضية التي استندت عليها الشاعرة , فإن مبررات التقرب من الواقع كانت كافية تمامًا أن تضعها في دائرة الخوف والاستسلام , ذلك أنها تواقة إلى معرفة مصيرها , فالخضوع لتأثيرات الآخر ( البديل ) ينبني على المقابلة بين الذات المشحونة بمشاعر الاضطهاد المفترض , وبين الآخر المشحون بمشاعر العظمة . وهذه كلها ضغوط نفسية تخلق لدى الشاعرة الحاجة أن تكون مؤثرة في المجتمع , فهي تريد أن تخلق لنفسها وطنًا على مقاساتها هي , لتعرف كيف ومتى تقدّم له القرابين :
أنا متعبٌ ولقد نسجتُ من الغمام لنا كفن
متخبّطًا من بين ناصية القوافي
جئتُ أبحث عن وطن
يا أيها المخبوء
في جيب الأماني الغافيات
على تسابيح الزمن
هَبْ لي حنينًا سرمديًا
من دهاليز الغواية
قرب أشلاء الوسن
أنا تائه احتاج أيام
الغياب لأختبئ
بين التفاصيل القديمة حيث أنفاس الفتن
موؤدة شتّى حدود الطيف يا وطني
وأخالها تبني من الأيام أوردة الشجن .
البنية العميقة لهذا النص تشير إلى طرفين هما ( أنا – أنت ) والعلاقة بينهما , علاقة حضور وغياب , فحال الحضور يتنبئ بشيء مفقود تريد الأنا تحقيقه , وهذه أعلى مراتب الأمنيات التي تطمح إليها :
أنا متعب ولقد نسجت من الغمام لنا كفن
متخبطًا من بين ناصية القوافي
جئتُ أبحث عن وطن .
وَفِعلا المجيء والبحث ، هما اللذان يحددان مسار الوعي لدى الذات , ومشروعية ( الأنا ) هي هذا العمر المهدور المختفي في حفريات الذاكرة . في حين يكون حال الغياب , وهو ذلك الطيف البعيد الذي عادةً ما يغرّب مشاعر الذات ويجعلها في غيبة من اللاوعي :
هَبْ لي حنينًا سرمديًا
من دهاليز الغواية
وفي كلا الأمرين , تكشف لنا الأفعال عن نسقٍ من الأداء الذي يدفع الشاعرة أن تنتظر طويلًا حتى يتم نسج امنياتها بمفتاح جمالي اختارت له الفعل الساكن المرتبط بفاعله المتصل ( نسجْتُ ) كشرط أساس للوصول إلى حلمها الذي جرّبته كثيرًا , كعنصر مركبّ للخيبة التي تعيشها , فهي عندما تستحضر هذا الحلم , فإنها تستجمع في ذاكرتها كل هذا الاستبداد الذي تعانيه من ( الآخر ) الغير مرئي . وهذا يشكّل برأينا , صورة متأرجحة لعلاقة الذات بالحقيقة , معنى هذا أنَّ الشاعرة تريد أن تملأ فراغًا وغيابًا , ووحدها القصيدة هي القادرة على ذلك .
هكذا يسير حلم الشاعرة هاشمية الموسوي في طرق مجهولة , فهي تريد أن تسلّط الضوء على جهة هامة بيدها مقاليد الأمور , وهذه الجهة هي النقطة الحساسة في الكشف عن اهتمام المتكلم بها , ومن ثمَّ فإنَّ الفعل ( هَبْ ) الذي أرادته الشاعرة أن يكون قرينًا لحنين تحتاجه هي , هو الذي يدفع مستوى الشعور في القصيدة , ليجعلها ذا قيمة عليا في الإفصاح عن التلبية التي تريدها الذات وتتمناها , لكن سرعان ما تختبىء هذه الامنيات في جيب بنية فعلية مضارعية :
احتاجُ أيامَ الغياب لأختبئ
لذا تقدمت الجملة الاسمية : ( أنا تائهٌ) على الفعل وفاعله المضمر , ليكون الأمل بتحقيق الحلم مقطوعًا .
ولأنَّ الشعر بكينونته حلم يسيطر على الذات , ويبني فيها من المدن والاشجار والحقول الكثير , وحين تلعب الذات على ثيمة الحلم , فإنها تمارسه بفعل الحياة ومتطلباتها , ليتحوّل إلى قضية لها إرثها وارضيتها في الواقع , لذا تحركت الذات في إطار شاسع من الخيال , لتقبض على ما تريد , من اجل أن تكسر كل المواضعات التي لا تريد لحلمها أن يتصادر بزاوية خفية وسلوك وهمي فارغ , لتولد – عندئذِ – القصيدة بلحظتها الشعرية المشحونة بإنسياح المعنى المتوتّر على أرضية الشاعرة الخصبة ببذار الحب لوطنها .
وهذا الفعل الإبداعي , غالبًا ما يكون حُرًا عند هاشمية الموسوي , لأنها تندس عميقًا في عباءة أهلها ووطنها , ومثل هذا القصد , هو الذي جعل من قصيدتها شحنة تعبيرية طارئة , تحاول من خلالها أن تمارس كل طقوس الحب التي تماهت معها كثيرًا , واوجدت لحلمها مساحة من التقبّل في ذهن القارئ , وجعلته يدرك الحقيقة , أو على الأقل الحقيقة التي كُتب عليه أن يفهمها .
ويبقى السؤال المثير للجدل , لماذا اختارت الشاعرة حلمها , وأثّثت له كل هذا الزخ المخيالي , لتقيم على تخومه بنيانها المرصوص ؟ ويبدو لي , انَّ الشاعرة أرادت أن تنفتح على اسئلة وإشكالات الكشف عن الواقع الذي تعيش فيه , أو أنها ارادت تغييره بإرادة حلمية.

د. ناظم حمد السويداوي
ناقد عراقي