محمود عدلي الشريف:
أيها القراء الكرام.. إننا في شهر ذي القعدة، وهو عظيم مبارك من جعله الله تعالى من الأشهر الحرم، يقول الزمخشري في (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل 2/ 269):(معنى:(فِي كِتابِ اللَّهِ) أي: فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصوابا. وقيل في اللوح أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، وواحد فرد وهو رجب. ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرًا: منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرّم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. والمعنى: رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذي الحجة).
ولو نظرنا نظرة تاريخية عن سبب تسمية هذا الشهر بذلك الاسم، لوجدنا أنه ما كانت العرب تفعله فيه مودع في اسمه، فهيا بنا نطوف في بستان المكتبة نقطف من أزهار التاريخ فيها ما نحيه من رياحين عطرة تفوح من اسم هذا الشهر الحرام، يقول صاحب (القاموس المحيط، ص: 311):(ذُو القَعْدَةِ، ويُكسرُ: شَهْرٌ كانوا يَقْعُدونَ فيه عن الأَسْفارِ)، ويقول صاحب كتاب (المطلع على ألفاظ المقنع،ص: 203):(ذو القعدة "بالفتح والكسر" سمي بذلك لأن العربَ قَعَدَتْ فيه عن القتالِ تعظيماً له. وقيل: لقُعُودهم فيه في رحالهم وأوطانهم)وجاء في (مختار الصحاح، ص: 71):(كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَسْتَحِلُّ فِيهَا الْقِتَالَ)، ويقول صاحب (مجمل اللغة لابن فارس، ص: 760):(هو شهر كانت العرب تقعد فيه عن الغزو)، وفي (زهرة التفاسير 2/ 585):(تحريم القتال ابتداء فيها، احترامًا لها، ولبث روح الأمن والطمأنينة بين الناس)، وجاء في (التفسير الحديث 6/ 336) (حرمتها وقدسيتها وتحريم القتال فيها متصلة بذلك، وكانت بمثابة هدنة دينية عامة ليتمكن العرب الذين كانوا يأتون إلى الحج من كل ناحية من أنحاء جزيرة العرب وخارجها ممن في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق من القدوم إلى مكة والعودة إلى منازلهم أثناءها دون خوف ولا حرج).
ومن هنا نعلم أن العرب على الرغم من أنهم كانوا أهل جاهلية، يحكمهم قانون قبلي وأعراف مختلقة من تلقاء أنفسهم، إلا إنهم كانوا على قدر مستوى الأدب والأخلاق التي تليق بالإنسانية ، وتحترم الآخر إلى أبعد حدود، فقد تكون الحرب قائمة بين طائفتين منهم وما أهل يهل هلال شهر ذي القعدة حتى يقعدوا عن القتال ويعيش الجميع في سلام في ظل تلك الأيام المباركة، أو على الأقل يوقفون القتال والحرب القائمة بينهم، والأهم من ذلك أن الجميع يلتزم بما تعارفوا عليه، دون إنكار أو اعتراض أو حتى خيانة أو تبديل.
تأملوا معي هذا الأمرـ إخوة الإسلام ـ وقارنوا ما نراه اليوم في عالمنا الذي نحياه، فقد لا يلتزم بعضًا مع بعض آخر بمعهود ومواثيق موقع عليها من الجانبين، وترى التهكم والسخرية التي لم تكن في الجاهلية في العصور المظلمة فلم يرد أن تهكمت قبيلة من معبود قبيلة أخرى، أو سب أحدهم إله الأخر، بل كانوا يحترمون ما يعتقدون جميعًا، الكل يحترم معتقد الجميع، وكان الذي يظهر هذا هو شهر ذو القعدة الذي يحرمون فيه القتال، على الرغم من جعلهم وتخبطهم في ظلمات العصبية القبلية ولباسهم ثياب الجاهلية الأولى، ويا سبحان الله تجد الأخلاق تتحدث عنهم بما كانوا يفعلونه، ولم ينكر ذلك عليهم التاريخ أو يعجب به، بل أورده كما هو، وعلى الرغم من التقدم المذهل في زماننا، نجد جاهلية عجيبة، وتخلفا يذهل العقل من تقدمه ورقيه، قمة التقدم في ذلك التخلف العقدي والفكري والاجتماعي، بل إن شئت قل في كثير من جوانب حياتهم، تجد الواحد منهم كالبقرة تتمرغ في بولها، وتعجب بما هي عليه، وتناطح الجبال الرواسي من دين الله ظنا منها أنها ستنال منه، ولن تعود إلا بتكسير قرونها، فدين الله جبل راسخ لا يشاده أحد إلا غلبه، وعلى الرغم من كثرة تلك الهجمات الشرسة من أصحاب تلك المعتقدات الفاسدة التي تتبرأ منها البقرة لآنها تعبد الذي خلقها وخلق كل شيء، بل وبتكرار تلك الهجمات لا يزداد دين الله الإسلام إلا شرفًا وعزة ورفعة وانتشارا بين الناس، ومن ينكر ذلك فليسأل السياحين في الأرض من المسلمين الذين يسكنون أو يزورون بلادا بها أقليات إسلامية، يجد أنهم يزيدون يوما بعد يوم، وقد يظهر ذلك للناس أو يكتم عليه إعلاميا، فالغلبة لدين الله، ولو سألنا أولئك الذين يقف الإسلام شوكة في نحورهم لماذا تكرهون الإسلام؟ هل أجبركم أحد على الدخول فيه؟ هل آذاكم أحد منه؟ هل سب أحد من المسلمين معتقداتكم؟ هل.. هل.. ولو أنصف هؤلاء لأجابوا بكلا، ولكنها الأحقاد التي لم تسمو بها معتقداتهم، بل زادتها خسة ودنسا، حتى أصبح السب عندهم والقذف بالباطل لا يرون أنه عيبا، لأنه لم يجد رادعا من معتقده لأنه معتقد مخترع مصطنع، يخلو من الجوهرية والتكاملية، ولهذا لا يبدأ مسلم أبدًا بما افتقده غيره بسب أحد أو سب معتقدات آخرين، لآن ديننا الحنيف نهانا عن ذلك،وكما ذكرت سابقا أن المسلم استقى سلوكه من دينه فليس هو بلعان ولا سباب، وإذا وجد في نفسه من ذلك شيئا تبرأ منه ونبذه ونفاه عنه، كما ينفي الكير خبث الحديد، ومن هنا تتضح لنا الإجابة على السؤال الذي دائما ما يتكرر، لماذا تكون الهجمات على الإسلام؟ ولماذا يسب رسولنا الكريم ـ عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم؟ ولماذا لا تهاجم الأديان الأخرى من قبل الأديان الأخرى؟ ولماذا لا يهاجم أصحاب الأديان الأخرى رموزًا لدي أصحاب الأديان الأخرى؟ لماذا الإسلام بالذات؟ أخي المؤمن: إن الناس في تلك المعتقدات نوعان لا ثالث لهما،أما أن يكون جاهلًا للإسلام وجاهلًا لحقيقة ما يعتقد، فهو في هذا يكره الإسلام، لأن الإنسان عدو ما يجهل، وإما أن يكون على علم بما هو عليه من بطلان وفساد، ويرى التكامل والقناعة في الإسلام ولهذا يجد النقص لديه واضحًا مما يجعله في كره شديد للإسلام، لا لأنه هو على باطل بل لآنه يرى الحق في الإسلام فيحاول أن ينقص منه إرضاء لكبرياء وإتماما لنقصه ورفعا لخسيسته، فهو يهاجم الإسلام لعلمه أنه الحق وأن ما هو عليه باطل، ولعلمه بنقص ما لديه من تعاليم وشرائع مقابل تكامل الإسلام الذي لم ترك قيد أنملة إلا وضحها، ولآنه يعلم أن أتباع معتقده ينقصون وأتباع الإسلام يزيدون، ولعلمه أنه في عوز دائم إلى شرائع الإسلام المتكاملة، وهو نقص دائم لتعاليمه، ولعلمه أن ما عليه من معتقد يستحي أن يخاطب به عاقلًا حكيمًا لبيبًا فطنًا، لأنه إذا حدثه بمعتقده لسخر منه أو لقهقه ضحكًا، ولكن الإسلام يحدث الناس عن نفسه، فمهما بلغت البشرية من تقدم فالإسلام قد سبقهم على الرغم من أن تقدمهم في حد ذاته نابع من الإسلام، فالإسلام شمسه ساطعة للجميع يخاطب العقول قبل القلوب، ليس فيه اعوجاج ولا انكسار، هدى للناس وبينات، ولهذا لا يستغرب من مثل أولئك الناس أن يكرهوا الإسلام وأن يهاجموه، فمن هو في مستنقع المعتقد لابد أنه سيستنكر على من هو في سماء الحقيقة وتكامل الشريعة وعظمة الإسلام، بل والأعجب من ذلك أن أولئك الناس يستمسكون بما هم عليه من باطل باستماتة، وما تندهش له العقول أنهم يحاربون الحق ويقنعون أنفسهم أنه باطل.
*[email protected]