لا أتذكر اسمه، ثلاثون عاما كفيلة بتجريف طبقات الذاكرة من مكنوزها، حتى لو كان ضمن هذا المكنوز اسم هذا العماني الفصيح ، لكن أتذكر عبارته البليغة، عن أحد ولاة صحم في حقبة ثمانينيات القرن الماضي، كنت في جولة صحفية بالولاية، ضمن جولاتي نصف الشهرية بولايات السلطنة، وكانت تلك الجولات ـ وليس احتفاليات الفنادق خمس نجوم في مسقط - منفذي للتشكيل العماني بدفئه الإنساني وعمقه التاريخي ومنظوره للوجود، وخلال حواري مع والي صحم حول القلاع والحصون العمانية فاجأني بعبارته البليغة: عمان يا أخي لا ينقصها التاريخ، بل ينقصها التأريخ.
وأظن أن العشرات من الباحثين العمانيين والعرب والأجانب قطعوا شوطا كبيرا في حقل التأريخ لعمان وحواضرها وحضورها القوي في إفريقيا، أي أن تلك الجزئية التي وضع والي صحم أنامله عليها منذ ثلاثين عاما، لم تعد إلى حد كبير موجودة ، لكن هذا لا ينفي أن المكنوز التاريخي لعمان - وخارج قاعات البحث - مازال مجهولا لرجل الشارع ، في المحيطين العربي والإسلامي.
منذ عدة أيام كنت أتحدث مع زميل صحفي حول ملحق ثقافي أسبوعي تعتزم مؤسسة دار أخبار اليوم إصداره مع جريدة المسائية التي تصدر عن المؤسسة ، وأوكلت إلي مهمة الإشراف على الملحق، فقلت لزميلي إن خططي للعدد الأول تشمل تقريرا عن مدينة نزوى ، تطلع إلي صامتا ، فظننت أن نظرته طفح أنيميا في المعلومات يعاني منها حول المدينة، فسألته : ألا تعرفها ؟ قال: بلى ، أليست إحدى مدن سلطنة عمان ؟
تطلعت إليه مترقبا أن يضيف شيئا سوى أن نزوى مدينة في سلطنة عمان ، لكن، لا شيء سوى الصمت !
قلت له نزوى هذه تم اختيارها من قبل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو" عاصمة للثقافة الإسلامية للعام الذي هل ، 2015، وهي مدينة عريقة ، إحدى أعرق مدن الخليج ، وتضم واحدة من أكبر وأقدم قلاع المنطقة، واسترسلت في شرح أهمية المدينة ، وكيف كانت عاصمة عمان في صدر الإسلام ، ولماذا أطلقوا عليها "بيضة الإسلام" ؟ ، وبدا كل ما قلته من معلومات ، حتى اختيار المدينة وأيضا مدينتي ألماطي في كازاخستان وكوتونو في بنين عواصم للثقافة الإسلامية هذا العام غائبا عن مداراته المعرفية، وفي النهاية قال ضاحكا: متخصص في الشئون العمانية ، ألست أحد أعضاء مجموعة عمان ؟
وهكذا يطلقون علينا في مؤسسة أخبار اليوم ، بل وفي الوسط الصحفي المصري ، الصحفيون الذين أمضوا بعضا من سنوات مسيرتهم الصحفية في الصحف العمانية ، مجموعة عمان.!
وخلال حوار مع بعض الزملاء في المؤسسة قال زميل ضاحكا : العديد من القيادات الصحفية في مصر أصبحت من نصيب مجموعة عمان.!
كان يعلق على تنصيب الصديق محمد الهواري رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم ، والزميل عبد الناصر سلامة رئيس تحرير صحيفة الأهرام ، وجاري العزيز سامي حامد رئيس تحرير صحيفة المساء، وقبل ذلك عبدالله حسن رئيسا لمجلس إدارة وكالة أنباء الشرق الأوسط والأستاذ فتحي سند رئيس تحرير صحيفة أخبار الرياضة والأستاذ عبدالعاطي محمد رئيس تحرير الأهرام العربي، وكثير غيرهم أصبحوا مديري تحرير في الصحف القومية الكبرى ، مثل محيي عبد الغفار ، محمد عبدالمقصود ، عبد القادر محمد ، فقلت مازحا : أصبحنا مجموعة عمان في الإعلام المصري ! .. لكن هل تنحصر المعرفة بنزوى وكل عمان فقط في هؤلاء الذين عملوا في السلطنة ؟
لاحظت هذا خلال الأمسية التي نظمها اتحاد كتاب مصر بالاشتراك مع الملحقية الثقافية العمانية في القاهرة حول العلاقات المصرية العمانية، المحاضرة التي ألقاها الكاتب الدكتور سعيد العيسائي في هذا الشأن أثارت الكثير من تعليقات الحضور، كل زاد وأضاف وشرح وأوضح العديد من النقاط التي وردت في محاضرة العيسائي، وكل من علقوا وشرحوا وأضافوا من أعضاء "مجموعة عمان"، أعني ممن أمضوا بعضا من سنوات عمرهم في السلطنة، أما غيرهم ممن حضروا الأمسية، ولم تشأ ظروفهم زيارة السلطنة اكتفوا بالانصات، الكثير من المعلومات التي ألقيت على أسماعهم ما كان لديهم دراية بها من قبل، وأظن أن الكثير من الغالبية العظمى من العرب والأجانب ربما تختزل مرجعيتهم المعرفية عن نزوى عاصمة الثقافة الإسلامية لمدة 365 يوما أنها مدينة عمانية، ولا شيء آخر ، تماما مثل زميلي الصحفي.
فإن كانت نزوى وكل عمان عانت في السابق من نقص في التأريخ ، فأظن أن أرشيف الباحثين والمتخصصين متخم الآن بالمئات من الأبحاث والمراجع ، ثمة جهد ضخم بذل - ولا يزال ـ لتوثيق التاريخ العماني، خاصة مع إنشاء جامعة السلطان قابوس في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، فماذا ينقص عمان الآن ؟ تحديدا شيء من الإعلام.
وحين تختار نزوى عاصمة للثقافة الإسلامية عن المنطقة العربية ، ينبغي أن يكون هدف الفعاليات أن يصل أمر المدينة بحضورها التاريخي والآني ، ومكنوزها التراثي الضخم إلى رجل الشارع في مصر والمغرب وليبيا ، وكل قطر عربي وإسلامي.
هل بدأ عام نزوى الإسلامي ؟ نعم ، لكن هذا لا يعني أن الوقت أصبح متأخرا للوصول إلى الشارع العربي والإسلامي ، فمازالت الفرصة متاحة لأن نعمل كي تحتل المدينة مكانة مركزية في الذاكرة الجمعية العربية والإسلامية ، ولن يكون هذا بزنزنة الفعاليات في أجواء احتفالية بمدينة نزوى نفسها أو مسقط أو جامعة السلطان قابوس أو النادي الثقافي بالقرم ، هذا مهم ، لكن ما لا يقل أهمية أن يتجاوز أمر المدينة الجغرافية العمانية ، بل والخليجية ، وليت السفارات والملحقيات العمانية في الخارج تعكف على تنظيم ندوات عن تاريخ المدينة وتراثها بالتعاون مع اتحادات الكتاب والجامعات والمراكز البحثية بهذه الدول، على أن يشارك في هذه الفعاليات باحثون متخصصون، وهذا وحده لايكفي. فلاجدوى كبيرة من مثل هذه الندوات إن لم يتجاوز ما يقال فيها أبواب القاعات المغلقة! بالطبع لدى السفراء العمانيين والملحقين الثقافيين بالعواصم العربية والإسلامية علاقات صداقة قوية بكبار الإعلاميين ، وسيحرص هؤلاء الإعلاميون على تلبية الدعوات التي توجه لهم ، وحضور الندوات ، لكن مفتاح الإعلام في الغالب الآن في أيدي الشباب ، فالمعدون الشباب في القنوات الفضائية هم من ينتقون ويجهزون مواد برامجهم ، ويختارون ضيوف هذه البرامج، والذي ينتشر في الشارع من الأطقم الصحفية بالصحف والمجلات المندوبون الشباب، الشارع هو بيت هؤلاء ، يلهثون على مدار النهار والليل من شارع إلى شارع، ومن منتدى إلى آخر، ومن مدرسة إلى جامعة ، وهؤلاء هم الذين سينقلون أمر نزوى إلى رجل الشارع ، لذا يتعين الاهتمام بهم ، وتوجيه الدعوة لهم عند تنظيم ندوات حول عاصمة الثقافة الإسلامية.!
وكما نرى ، أصبحت الكلمة العليا في الإعلام ، للفضائيات ، فلماذا لا تبادر منظمتا "إيسيسكو " و"إليسكو" بتأسيس فضائية ، ضمن مهامها المحورية تسليط الضوء على العواصم الثقافية العربية والإسلامية.
إن قناة مثل هذه سيكون مردودها أكثر جدوى، وربما أقل تكلفة من مؤتمرات الفنادق الفخمة التي لا يعلم بأمرها عموم الناس، وأيضا ستكون أكثر جدوى من مطبوعات ينفق عليها الملايين ولا يقرأها أحد.لكن مثل هذه المطبوعات من الممكن أن تكون ذات جدوى، أعني ـ تحديدا ـ كتيبا عن العاصمة التي يتم اختيارها عاصمة للثقافة العربية أو الإسلامية ، هذا الكتيب يتم توزيعه على مدارس وجامعات الدول الأعضاء في المنظمتين ، على أن يجري قراءته في حصص القراءة الحرة بالمدارس.
ولو تضمن أي كتيب من هذه الكتيبات أربعمائة معلومة مثلا عن نزوى ورسخ من بينها عشر أو عشرون معلومة فقط في ذاكرة كل طالب، فهذا عائد مجز للغاية من وراء اختيار المدينة عاصمة للثقافة الإسلامية ، لأن من خلال هذه المعلومات سيدرك أبناؤنا ـ في كل الجغرافية العربية ـ أن في السلطنة مدينة عريقة ، كان لها حضور عظيم في التاريخ العماني والخليجي ، وتحظى بمكنوز تراثي وفكري جدير بأن يجعلها محط الاهتمام ، ليس فقط في عام 2015، بل وفي كل الأعوام .

محمد القصبي