محمد الرحبي:
■ ■ حظيت القصة في فترة من الفترات، بشهرة واسعة، وكانت الأقرب إلى القاريء، بسبب طرحها لقضايا مختلفة اجتماعية وغيرها من القضايا، الى جانب صفحاتها القليلة. وهي تختلف كثيرا في فلسفتها عن الرواية والشروط الفنية، الى ان جاءت الرواية وسحبت البساط من القصة، والقصة في الواقع اول ما تأسست (في القرن الثاني بعد الميلاد في الأدب اليوناني، اما العرب فقد جاءوا بحكايات وقصص تعتمد على اسلوب القصة كأيام العرب وحكايات الفرسان ولكنها تستند على مقومات غير مقومات القصة، حيث لم تكن للعرب قصص، لأن توجههم كان منصبا على الشعر والخطابة كما يقولا د.عبد القادر أبو شريفة ود. حسين لافي قزق في كتابهما مدخل الى تحليل النص الادبي). ■ ■
وبالعودة للمجموعة القصصية حليب التفاح للكاتب يحيى المنذري والتي تضم عدد من القصص، نجد من يمعن ويتعمق في قراءة القصة في حواراتها والشخصية المحورية اسحاق ، هي قصة فنتازية فوق الواقع، وتحتشد بالرموز التي لا يمكن تفكيكها بسهولة، ولا تعرف كيف تبدأ القصة وكيف تنتهي، وربما يسري ذلك على جميع القصص التي تضمنتها مجموعة حليب التفاح) مما يدل على حرفية الكاتب ومدى الثقافة والقدرة على صياغة فن كتابة القصة التي يتمتع بها، وهو شيء مهم ويعطي صورة عن مدى الشغف والحب والاهتمام بالتطوير المستمر لكتابة القصة الأجمل واثراء المعرفة حتى الوصول الى الهدف الأسمى لكتابة الرواية.
الرواية التي اصبحت اليوم تنافس الشعر وتخصص لها جوائز مثل البوكر وغيرها، والتي استطاعت اي الرواية من خلالها ان تقترب أكثر من القاريء ويزداد حبه لها؛ عكس الشعر الذي أصبح يساء له من قبل من ينصبون انفسهم اليوم لكتابة الشعر وماهم في الواقع كذلك أصبح نتيجة هذا الهدم المستمر للشعر من قبل صغار الشعراء اصبح غير متقبلا من قبل المتلقي واصبح يهتم بالرواية اكثر من الشعر.
والمجموعة القصصية حليب التفاح تحاول ان تكون مشروع رواية ربما مستقبلا. لعدة اعتبارات لكونها قصة استثنائية، بسبب الموضوع الذي تطرحه ولغموض العنوان عنوان المجموعة القصصية وهو حليب التفاح.
وللتقريب للقارئ، فحليب التفاح هو اسم مجاز. وذات صبغة ايروسية، فالتفاح حسب المتعارف عليه هو فاكهة، ويستفاد من عصيره وليس من حليبه، ولذلك يمكن اعتبار العنوان هو عنوان رمزي اسطوري.
وقابل لكل الاحتمالات، وكما تقول الناقدة بسمة عروس (أن العنوان لايفيد في الكشف عن مرتكزات في القراءة تشتغل على امتداد القصص، ولكنه يعرب عن الفلسفة العامة للعمل بكامله، وهي ان يلتفت الناظرفيه الى المعلومات الواضحة، ويسرع في تدبرها، وانمافي ان يبحث عماوراء هذاالنظام المخاتل من برامج لم تعلن عنها الإشارات والقرائن) وعندما نتعمق في قصة حليب التفاح، نجد ان هناك عدة شخوص لكن محور القصة هو طفل يدعى اسحاق، وكان يحب التفاح وقضمها الا ان ابوه لم يشتري له تفاح، بينما زملاءه يقضمون تفاحهم الحمر والخضر امام عينيها في المدرسة، وكان يسمع صوت القضم ويشاهد الرحيق الذي يتقاطر من الشفاه، وفي احد الايام، طلب من ابوه ان يشتري له تفاحة واحدة، لكن ابوه لم يستطيع، فرضي اسحاق بالثمر وبخبزامه الساخن. وحينما وصل الطفل الى سن الخامسة عشر اصيب ابوه بمرض نادر اقعده عن النطق والمشي.
أخذه ابوه بصحبة امه الى حكيم الجبل، واعطاهما ادوية شعبية وقال لهما الأدوية ليست الا مسكنة للألم ولكنها لاتشفي المرض ودواء هذا المرض تفاحة لونها ابيض، وهي موجودة في بلاد بعيدة فيها الكناغر، التي تحمل هذه الثمرات، في حقيبة بطنها، وحين يكبر صغارها لا تستطيع حملها، تحمل في كيسها التفاح الابيض، وكما يبدو في سردالقصة، ان القصة مليئة بالالغاز والرموز، التي يحتار معها القاريء، نجد بعد ذلك ان إسحاق نفسه يمشي في طريق يشق غابة من التفاح، وبين تفاحة وتفاحه تلفظ المرأة ويبعث من جسدها نور يضيء الطريق، ثم يتحول الى تفاحة ناعمة، ينسكب منها سائل طازج، وفي رحلته مع أصدقائه الى جبل شمس كانت رحلات أصدقائه كالريح هزت اغصان الأشجار المتناثرة، واصطدمت بحد الصخور وسقطت كالسهام، الى قاع الجبل، حيث البيوت المزروعة بين النخيل، واحدثت دويا، كاد يوقف سكان القرية، وشاهد اسحاق شجرة تفاح في الجبل المجاور ولاحظ ان احد تفاحاتها لونه اابيض، ولم يخبر اصدقائه بها، وحين حل الليل خرج من الخيمة وتركهم نائمين، يتسلل البرد الى داخل الخيمة وتلذذ بلسعهم، وانتشرت في السماء بالونات سوداء هرولت واصطدمت بجسد الجبل وتمزقت، وهكذا تمضي القصة من حدث الى حدث، فنجد اسحاق الذي كان يشتهي التفاحة، صار لا يحبها ولكنه يريددواءها، الشجرة باوراقها وابناءها واحفادها تنمو الى الأسفل، ثمراتها تسقط الى الأعلى يتناثر التفاح في السماء يطير منتشرا في هواء الارض، حيث نجد في كل مرة يختلق الكاتب قصة بعد قصة مع اختلاف اسماء الشخوص، حيث لم تكن قصة حليب التفاح تتصاعد احداثها من خلال شخصية اسحاق وانما يتم اختلاق قصص مغايرة وبنفس الاسلوب، فنجدها تنقلنا اي قصة حليب التفاح الى عنوان اخر، المرأة الفاتنة تتحول الى بندقية، ولبست ملابس الاغراء، خرجت من بيتها الى الشارع مهددة وبمجرد ظهور اول فتى اطلقت نحو راسه رصاصة، ثقبته بضراوة في مخيلته تدفق اللعاب من فمه، الفتى تألم من الجوع والعطش، بعدذلك تنقلنا القصة الى حدث آخر، حيث التوغل الى كهف التفاحة اكثر، قاده الضوء الى تلك البلاد السعيدة ذات الطقس البارد، تسللت اغنية الكنغر الى اذنيه وتلذذ في روحها، هناك شاهد التفاح نظر او اكثر لذة. وشاهد انهارا من الحليب وشاهد البشر كالطيور، لا يصنعون اشباههم في عيونهم، ولا يراقبون أنفسهم وافكارهم، يراهم تواقين الى العيش جسورين على الطيران، ويتضح بعد ذلك ان مجموعة حليب التفاح. تحاول ان تقدم لنا او يقدم لنا من خلالها الكاتب بعض القضايا ولكن باسلوب رمزي فهو لا يقدم ما يريده حسب الواقع وانما بمعاني ومفردات اخرى تنصب في الجانب الاجتماعي والثقافي، و كان على الكاتب ان يكون على الأقل متصالحا من خلال الفكرة واللغة التي يقدمها حتى لاتجعل القاريء او المتلقي يتيه كثيرا وهو يتلذذ بقراءة هذه المجموعة القصصية حليب التفاح. لكن كما يبدو عمل الكاتب بفلسفة العمل القصصي وهو الغموض عكس لغة الرواية التي تمتاز بالسلاسة اكثر. ومن هنا تبقى مجموعة حليب التفاح وهي ربما المجموعة القصصية الخامسة من الاعمال القصصية المتميزة، للكاتب الفذ يحيى بن سلام المنذري.