د. رجب بن علي العويسي
ينطلق تساؤلنا المطروح من فرضية الدور المحوري الذي تؤديه رسالة الفنان عامة والممثل خاصة في حياة المجتمعات، فهي رسالة أصيلة واضحة المعالم محددة الأهداف، يقوم على رعايتها والحفاظ عليها فنانون مخلصون عاملون مجتهدون يستشعرون عظمة الرسالة وإنسانيتها ومهنيتها وأخلاقياتها ويحافظون على خيوط التواصل مع المجتمع بكل مهنية واحترافية إيمانا بمبدأ المشتركات الإنسانية، وفي ظل الظروف التي تعيشها المجتمعات شكلت رسالة الفن مساحة أمان للتعبير عن واقع الإنسان وأوجاعه وطموحاته وتوقعاته في ظل ما يعانيه من تحديات فكرية ونفسية وممارسات اجتماعية باتت تؤثر على أمنه واستقراره واتساع ظواهر الإلحاد والنسوية والمثلية وغيرها من الممارسات التي باتت تغزو واقع المجتمعات لتجسد رسالة الفنان دورها المؤثر في نقل صورة الإنسان المكافح المجتهد بأساليب وأشكال تعبيرية تحمل الكثير من الآمال والأحلام والفرص.
وبالتالي إلى أي مدى بات دخول الفنان الأصيل والممثل المحترف الحاذق في عالم الدعاية وتجارة الإعلانات تحديا قد يفقد رسالة الفنان خصوصيتها وموقعها في قلب جمهوره؟ وهل هذا الدخول هو محاكاة أو تصنع لدور مشاهير التواصل الاجتماعي وشعور بتراجع دور الفنان ورسالته في التعبير عن الواقع، الأمر الذي يتجه به لتعويض هذا التراجع بموضة البحث السريع عن الشهرة التي اكتسبها مشاهير التواصل الاجتماعي بأقصر الأوقات وأقل الجهد والعمل، أم يرتبط الموضوع بمكاسب مادية في ظل أزمة الإنتاج الفني والإعلامي التي رافقت كورونا (كوفيد19)، ومقارنة بما يجنيه مروج الدعاية والإعلان في إعلان واحد أو ساعة زمنية واحدة من مكاسب مالية طائلة، ما لم يحصل عليه الفنان من جهد ودور في مسلسل يفوق عدد حلقاته عدد أيام الشهر، ناهيك عما يتطلبه منه من وقت وجهد وإتقان لمشاهد التمثيل واستحضار للغة الجسد وغيرها من الفنيات واللطائف والتفاصيل المعقدة والصعبة لصناعة فنان محترف وممثل يجيد احترافية الأدوار ومحاكاة الشخصيات؟
تساؤلات تضع رسالة الفنان على المحك، وتستدعي اليوم مراجعة أعمق لواقع رسالة الفنان والصورة الأخرى التي باتت تعكسها مثل هذه التوجُّهات والممارسات على جودة هذه الرسالة وكفاءتها، مع اليقين بأن الفن عامة قد استفاد من هذه التقنية والفضاءات المفتوحة وقنوات اليوتيوب وغيرها في الترويج لرسالته بوسائط وأساليب وأدوات متعددة في متابعتها من الجميع خارج نطاق الزمان والمكان، لتطلق فضاءات متابعتها بلا حدود وبدون شروط وبأي شكل من أشكال وسائط التواصل الاجتماعي، بل قد يحصل على العرض الأول للفيلم والمسلسل بدون الحاجة إلى شبك التذاكر، هذا الأمر ـ بلا شك ـ كان له أثره في اتساع حضور الفنان ومتابعة مجتمع التقنية له، فيصبح عدد المشاهدين له أكثر من ذي قبل وتصبح مسألة دخول هؤلاء إلى عالم الدعاية محطة يجب البحث خلالها عن الدلالات والمسوغات والمسببات والعوامل التي باتت تقف خلف اتجاه الفنانين والممثلين لسوق الدعاية الوقتية.
لم تكن صناعة الفنان بتلك السهولة والبساطة حتى ينال رضا متابعيه وتقديرهم واحترام الرسالة التي يحملها، كما أن الجمهور الذي يصنعه الفنان والممثل خاصة لم يأتِ من فراغ بل احتاج إلى مزيد من التجريب والمران والممارسة والتقييم لمستوى حضوره في المشهد الفني والتمثيل والمسرح والدورات البرامجية للمسلسلات الرمضانية أو مسلسلات المواسم والذي احتاج إلى مزيد من الوقت والجهد والدخول في أكثر من سيناريو وموقف تمثيلي وشخصية درامية مع ما يتعرض له من نقد وتصحيح وتوجيه حتى وصل إلى درجة الجاهزية ونالت استحقاق التقدير بعد مرحلة طويلة من العطاء والمران والعمل والممارسة والاحترافية، الأمر الذي لم يجده مشاهير "السوشيال ميديا" ومروِّجو الإعلانات والداعية، والذين بنوا مسارهم بدون تلك الوقفات التي عاشها الفنان، فالطريق السهل المعبد لهم لمجرد ممارسة دعائية وتجارية بات يتناقلها المجتمع، في ظل انعدام مفهوم الاحترافية القائم على المعايير وفراغ الضوابط التي يعيشها قطاع الدعاية والإعلان حتى أصبح مجالا مشاعا لكل من هبَّ ودبَّ، ولم تعد المسألة قائمة على مواصفات شخصية أو أخلاقية أو مهنية معينة بقدر ما هي دعاية صوتية وظواهر كلامية وأنماط سطحية ليس لها في قالب الاتزان والتقييم والنضج الفكري والرصانة العلمية أي حضور، وبالتالي فإن إسقاط مسألة دخول الفنان والممثل الأصيل في المشهد الترويجي والدعاية الفارغة يحمل اليوم الكثير من الهواجس التي سيكون لها تأثيرها على صناعة الفن الأصيل ومستقبل الفنان والممثل على حد سواء والتي ستنعكس على مسار التقدير الاجتماعي الذي تحظى به هذه الفئة، ودخولها في عالم الدعاية السريعة ولأغراض تجارية لمنتجات تجميلية أو استهلاكية أو غيرها مدخل في سلب هذا الاستحقاق الذي منحه لها المجتمع، وهو أمر يمكن أن ينعكس سلبا على دوره كفنان وممثل له حضوره في استحضار وتجسيد دوره لبعض الشخصيات القيادية والمجتمعية والدينية والوطنية والإنسانية والاجتماعية والفكرية أو غيرها أو تمثيل شخصيات وسير بعض السلف الصالح ومن هذه الأمة وما تحمله في نظر المتابعين له من هيبة وحضور وتقدير وقدوة ونموذج لن تغطيه مشاهير الفلس، فهل يستوي من يبغي من دعايته تحقيق الربح السريع وتشجيع الناس لشراء منتج أو التسويق له مع صاحب الرسالة، ومن يحمل صدق المبدأ وحس الضمير وثقافة الإنسان ويتمثل أخلاق العلماء وسلوك المتعلمين في ظل طبيعة الدور الذي يقوم به والمحتوى الذي يسلط الضوء عليه، مما لا شك فيه أن لا مجال للمقارنة كما لا مجال للمساواة أو تبديل الأدوار.
إن ما تعكسه رسالة الفنان اليوم من مواقف وتبرزه في محتواها من أحداث في ظل ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمسرحين من أعمالهم وارتفاع الأسعار وغلاء الحياة المعيشية، وارتفاع معدلات القلق والخوف والجريمة والأمراض الاجتماعية التي بات تنتشر بين أفراد المجتمع أو يعانيها الشباب، فتجسدها رسالة الفنان وتنطلق منها أدوار الممثل، وتنسج خلالها خيوط التقاء مع هذه الأحداث الاجتماعية في حجم ما تؤسسه من حجم المعاناة وقِيَم الكفاح والصبر والعيش في الظروف الصعبة والتي كان لها أثرها في صناعة هذه الاستحقاقات التي باتت تصنع لرسالة الفنان قيمة مضافة قوامها بناء سلوك الوعي، وتعظيم ثقافة الحب والسلام، والتعايش والوئام، والاحترام والاعتراف، وتعزيز سلوك التواصل الاجتماعي والتكامل الشعبي في المصير المشترك والإرادة، نحو فتح صفحات التأريخ المشرقة بألوان السماء الزاهية، وما تمنحه من روح متجددة في ظل أشكال التعبير الثقافية والفنية، التي تصنع للحياة مسارات واضحة، تبتعد بها عن التصنع، وتقترب من العفوية والبساطة في أحيان كثيرة، حتى أضحت رسالة الفن، ومسؤولية الفنان أمام تقييم لنواتجها على النفس، وشعور بمداخلها في الخروج من القيود والزواجر، لتقرأ الحياة في صدق ابتسامة، وبوح أنشودة، ورقي مشهد، ولطافة حوار، حول الجمال والأوطان والأرض والتنمية والحضارة والإنسان، لتجد الشعوب في نتاج رسالة الفن استراحتها لملء وقت الفراغ، وتغيير روتين الحياة المتسارع بلا هوادة، وصياغة نمط التعامل مع الإنسان بروح مرنة أقرب إلى نفسه، وأبعد عن الإضرار به، أو الإساءة إليه.
أخيرا، لم نزعم بأن رسالة الفن الأصيل والفنان المحترف العصا السحرية لحل مشكلات الإنسان وقضاياه، ولكن ما تحمله من سلوك الاعتدال والبساطة والبُعد عن التكلف، وأسلوب المحاكاة للعيش في الواقع بما فيه من تفاصيل دقيقة وتحديات صعبة وتعوجات وتعرجات بفتح نوافذ الأمل، لتبني من هذه المشتركات القيمية والمؤتلفات الإنسانية مساحة أمان جديدة يصبح فيها الانتصار والقوة للمظلومين والمستضعفين والكادحين والعاملين، فلهم العقبى الجميلة ومن يصمدون في حمل رسالة السلام والحياة والحب، إنها محطات يجدها المتابع لرسالة الفنان الأصيل والممثل الحاذق المخلص الإنسان الذي لم تشوه صورته هوس الشهرة والكسب السريع، إيذانا بأن من يحملون هذه الرسالة يمتلكون رصيدا استثنائيا من الإخلاص، يبنون في ظله، محطات التقاء، وخيوط تواصل ممتدة مع الإنسانية، إنها رسالة عتب لكل فنان أصيل وممثل حاذق على قرب جمهوره منه وحملهم لرسالتهم، بأن يصنعوا من رسالتهم قوة يحافظوا على كيانها ونجاحها وعظمتها وعصمتها من كل المشوهات التي باتت تقذف زبدها في محاولة لإلغاء رسالتها الإنسانية ومع هذه المحاولات المستميتة لن يتمكن مشاهير الإعلانات والدعاية والسناب شات في ظل خواء المحتوى وفراغ الضوابط في رسم ملامح الحياة التي تنقلها رسالة الفنان والممثل ومن في شاكلتهم من إعلاميين وغيرهم، لتبقى شطحات الشهرة وجنون العظمة ما هي إلا زوبعات فضفاضة وأبواق خائرة، وظواهر صوتية لن تؤثر في رسالة الفنان والممثل، والسبب ببساطة أنه لن يمكنهم التعاطي مع ما يعيشه إنسان اليوم من تحديات ويواجهه من مواقف والتي تتجاوز تلك السطحية التي يفكر فيها هؤلاء، في إعلانات تجارية مدفوعة الأجر، محتوى ترويجي يعيش حالة الصراع مع نفسه، فإنسان اليوم قبل أن يكون بحاجة إلى خلطات التجميل والميك أب، والمقويات الجسدية والجنسية، بحاجة إلى لقمة العيش التي يؤمن بها حياته وحياة أبنائه ويحفظ بها كرامته، فما بين باحث عن عمل ومسرّح من عمله، أو بين مشرد يبحث عن مأوى ومكان أمن في إقليمنا العربي وبعض مناطق العالم، موجهات أصبح المواطن في أي بقعة من الأرض على وعي بها وفهم لغاياتها.