اصبحت أفلام السيرة الذاتية فئة تستقطب قاعدة كبيرة من المعجبين ، فكما لهذه الأفلام دور مهم بالتعريف بالشخصية المحورية سواء كان لها أثر إيجابي على المجتمع أو سلبياً ، لها دور أيضاً في جعل هذا النوع من الأفلام يتزايد ويتكاثر تدريجياً، وتظل فكرة تجسيد الشخصيات العامة والمشهورة دائما وأبدا حلما يداعب جميع صناع الأعمال الفنية، والذين يسعون الي خوض هذه التجارب للوقوف على أهم المحطات في حياة النجوم، فيقدمون تجاربهم بحكبة فنية مقنعة ومعها قليل من "التوابل الفنية" كما يسميها أهل المهنة، فتكون النتيجة في النهاية عملا دراميا يخاطب الخيال ويترجم الواقع في نفس الوقت.
ورغم ان هذه الظاهرة لم تكن وليدة اليوم، خاصة بين نجوم هوليوود، إلا أن ما دفعنا للحديث عنها مرة اخري هي حالة الهوس التي وصل إليها منتجو السينما الأميركية، للدرجة التي جعلتهم يستعدون في كل عام لتقديم تجربة جديدة من هذا النوع وبإنتاج ضخم ليخوضوا بها المنافسة مع غيرها من الأعمال لحصد أكبر عدد من الجوائز، واليوم تطل علينا هولييود بأحد هذه التجارب وهو عالم الفيزياء النظرية البريطاني العبقــري " ستيفين هوكينغ " .
ولمن لا يعرف هوكينغ قبل الحديث عن الفيلم ، فهو باختصار عالم له ابحاث نظرية في علم الكون، وابحاث عن العلاقة بين الثقوب السوداء والديناميكية الحرارية , وله ايضاً دراسات عن التسلسل الزمني كما جعل من مفاهيم الفيزياء المعقدة اكثر مرونة لتكون سهلة الفهم لدى الجميع.
اصيب وهو في عمر 21 بمرض عصبي يدعى (التصلب الجانبي الضموري) جعل منه مع مرور الزمن مقعداً غير قادر على الحراك، وذكر الاطباء انه مرض خطير جدا ولن يعيش اكثر من سنتين لكنه تحدى المرض وهو الان في ال 71 من عمره وهذا ما أدهش الأطباء لسنوات طويلة .
لديه كتاب يدعى " موجز تاريخ الزمن " وهذا الكتاب يبسط المفاهيم المعقدة في الفيزياء بدءاً من ارسطو الى ستيفين وينبيرغ ,حيث ان هذا الكتاب دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية من حيث كونه الاوسع انتشاراً ، وترجم حتى الان الى اكثر من 40 لغة وتحول الى فيلم عام 1991 من اخراج ستيفين سبيلبرغ.
تميز هوكينغ بالنشاط في الاعمال الاجتماعية والدعوة للسلم العالمي وشارك بمظاهرات ضد الحرب على العراق وأعلن في عام 2013 رفضه المشاركة في مؤتمر في إسرائيل.
نظرية كل شيء (The Theory of Everything) : هو فيلم سيرة ذاتية و‌رومانسية بريطاني، من إخراج جيمس مارش وسيناريو انطوني ماكارتن الذي نجح، بعد ثلاثة اعوام من الاصرار، في اقناع جاين زوجة ستيفن هوكينغ الاولى بالموافقة على اقتباسه السيرة التي كتبتها عن زوجها ومرضه واكتشافاته العلمية وعلاقتهما معا في مذكرات حملت اسم " السفر إلى اللانهاية : حياتي مع ستيفن ".
كان الفيلم بمثابة تحدٍ للمخرج مارش حيث انه لم يقترب من السياق التوثيقي، لكنه نجح في إيصال قصّة الحبّ وجمع العديد من الأحداث الدرامية في فيلم واحد، مستعيناً باللقطات القريبة لهوكينغ وحركات وجهه خصوصاً عند فقدان صوته نهائياً وقبل تركيب الآلة الصوتية. حتى انه كسر رتابة السرد، مستعينا بما يعرف " الفوتومونتاج" ، أي المشهد الذي يلخص بعض التفاصيل والمواقف، ويربط بينها ويشير إلى تعاقب الزمن .
الفيلم من بطولة " ايدي ريدماين " و " فليسيتي جونز " بدور ستيفن وجين على التوالي، إضافة إلى إميلي واتسون وديفيد ثويليس وسايمون ماكبرني وتشارلي كوكس في أدوار مساعدة.
اداء باهر شكلا ومضمونا، للممثل الموهوب ريدماين ، وذلك رغم عدم معرفة الجمهور بأعماله إلا من خلال دور الشاب المتحسر العاشق في فيلم " البوساء "، حيث انه تألق من خلال تحضير مضن وخسارة للوزن (6 كلغ) وتدريب مع راقص محترف ومقابلات عديدة اجراها مع اشخاص يعانون المرض نفسه. كما انه ضغط جداً على جسده فكاد يتسبب بالتواء في عموده الفقري .
استطيع ان اقول بعد هذا الاداء الثوري ، اننا نشاهد هوكينغ نفسه على الشاشة، فكان حاضراً بالصوت والصورة، خصوصاً في حركات وجهه، مستعيناً بأسنان وأذنين إصطناعيتين لإثبات شخصية هذا العالِم العظيم. ولاشك أن مستوى الأداء هنا سينجح في انتزاع الاوسكار ، خاصة بعد ان حظى ريدماين على جائزة "الجولدن جلوب " لأفضل ممثل درامي ، وبعد ان رشحت أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة الأمريكية الفيلم لخمس جوائز اوسكار منها جوائز أحسن فيلم وأفضل ممثل أول وأفضل ممثلة أولى .
كما كانت الممثلة جونزالأكثر مُطابقة لهذا الدور بصدقها وشفافية أدائها. تلك المرأة الحديدية التي لم تتخلّ عن الزوج الذي أحبّته رغم محاولاته المتكررة ونصحه لها بأن تتركه لمعاناته. إنها الفيزياء الساحرة بين الممثلين اللذين أعطيا الحياة للفيلم، واستطاعا سوياً ان يخلقا علاقة متينة بينهما وبين المُشاهد.
حتماً ساهم مصمم الماكياج جان سيوال بدوره في اظهار تطور المرض، فقد ابتكر أطراف اصطناعية للأجزاء الملتوية من جسم ستيفن كالركبتين والكتفين والمرفقين.
ولا ننسى ايضا ، لتصوير السينمائي الأخاذ بفضل براعة مديره الفرنسي بينوا ديلوم، فهو نجح في الانتقال من مرحلة الرومانسية الناعمة في الجزء الأول من الفيلم، بألوانها الدافئة وإضاءتها الناعمة، إلى الطابع الداكن المليء بالظلال تدريجيا مع تدهور الحالة الصحية لستيفن، وانعكاسها على حياته مع جين، التي تصل إلى ذروتها بعد أن يزداد الاعتماد كثيرا على مساعدين من الخارج.
يذكر انه ترشح الفيلم لجائزة الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتليفزيون (بافتا). وتم أيضا ترشيح ريدماين وجونز لجائزتي بافتا لأفضل ممثل وممثلة .

احداث

يعيدنا الفيلم الى إنجلترا عام 1963 ليعرفنا الى ستيفن هوكينغ ، طالب علم الكونيات الخجول والموهوب في جامعة كامبردج والمهووس بمعرفة سر الكون حيث ان نبوغه وتفوقه في الدراسة يلفتان أنظار العلماء من أساتذته في الجامعة.
يلتقى ستيفن بطالبة الفن ، جاين وايلد في احدى الحفلات ويبدو لقاءا ساحرا ، حيث يكتشفان من اللحظة الأولى كيمياء خاصة بينهما ، تزداد كل يوم .
...................................

العصبون الحركي

يسقط هوكينغ ضحية لمرض يصيب الجهاز العصبي، ويدعى العصبون الحركي او التصلب الجانبي الضموري ، يؤثر بشكل مدمّر على حركة عضلات الجسم، فيصبح تدريجيا عاجزا عن السير والكلام لينتهي بشلّه ومنعه من التنفس وقتله .
تأتيه جين للأطمئنان عليه ، لكنه يتهرب من لقائها او حتى محادثتها عبر الهاتف ، ولكنها تصر وتحاول حتى تخبره انها تحبه .
ورغم ما يقوله الأطباء لجين من أن ستيفن أمامه فقط عامان في الحياة، إلاّ أنها تصرّ على الزواج منه .
...................................

تحدٍ

متسلحاً بالشجاعة وبحب جين ، المرأة المتدينة التى وجدت قوة في الايمان استخدمتها في خدمة أولادها وزوجها، الذي تكن له حبا لا نهاية له دون أي وازع من الشفقة، يبدأ هوكينغ معركة جديدة لتحدي ما لا مفر منه. جاين تنجب له طفلين وتشجعه على إكمال الدكتوراه وبدء أبحاثه حول ما هو أثمن شيء بالنسبة إليه " الوقت" .
تأتيه جين بمقعد متحرّك للمعاقين، يصبح مكتوبا عليه أن يبقى فوقه طيلة حياته. في حين يعاني جسده الضمور والشلل التدريجي ، عقله يحلق ابعد من حدود الفيزياء، ويشرح رسالة الدكتوراه الخاص به عن أصل الكون، في علاقة مايسمى بالثقب الأسود بالزمن، وتفسير أصل الأشياء، وهل هناك حدود للعالم؟ أم أن العالم متحرر أصلا من حدود الزمن؟
وتستمر جين في رعاية ستيفن لسنوات رغم انشغالها أيضا في إعداد رسالة الدكتوراه الخاصة بها في مجال يختلف تماما عن مجال العلوم الطبيعية، فرسالتها عن الشعر الإسباني في القرون الوسطى.

ما يحدث أن جين تجد تعويضا نفسيا لها عن الإرهاق العصبي والنفسي، الذي يبلغ ذروته وذلك وذلك بالالتحاق الى فريق كورال بكنيسة وتقيم علاقة بحذر مع جوناثان مدرب الكورال الذي يصبح راعيا لستيفن، ويتحوّل تدريجيا بسبب إهمال الثاني لأولاده إلى الأب البديل، ومع مرور الوقت يرزق ستفين و جين بمولدهما الثالث ، حينها تساور الشكوك عائلة ستيفين حول الطفل ، خاصة مع تدهور الحالة الصحية لأبنهم .
...................................

لن يتحدث مجددا

تلك هي الجملة التي قالها الطبيب لجين ، بعدما اصيب ستيفين بالتهاب رئوي حاد وفقد وعيه ، فوضع على جهاز التنفس الصناعي ، حينها عرض الطبيب على زوجته إنهاء حياته ولكنها رفضت فلجأوا لإجراء عملية جراحة فتح ثقب في قصبته الهوائية للتنفس ولكنه يفقد القدرة على النطق.
وبعد مرور 26 عاما على زواجهما ، يقرر ستيفن ان ينفصل عن جين ، لشفقته عليها من ما تحملته من مسؤولية ومعاناة طوال تلك الفترة ، وكما نرى في الفيلم انه كان يميل بمشاعره إلى إلين مايسون ، المرأة التي تأتي لرعايته وتدريبه على التأقلم مع العيش، بعد أن فقد قدرته على الكلام . ويقال انه تزوج منها في الحقيقة ولكن انتهى زواجهما سريعا بعد مزاعم بأنه تعرض للاعتداء خلال فترة الزواج وهو ما نفاه هوكينغ. وفي تلك الفترة تنتقل جين الى العيش مع جوناثان بعد ان تتزوج منه ، وتبقي علاقتها مع ستيفن كـأصدقاء.
ما يحدث أن ستيفن لا يموت بعد سنتين كما تصوّر الأطباء، بل يستمرّ في الحياة ، مع كثير من التدهور الصحي، لكن التقدم العلمي يساعده على اجتياز الكثير من المواقف العسيرة، فهو مثلا يستخدم جهازا إلكترونيا لكتابة الكلمات التي يودّ التعبير عنها، هذه الكلمات تظهر على شاشة مثل شاشة الكومبيوتر، مرتبطة بالكرسي المتحرك، ثم يضغط على أحد الأزرار لكي تتحول الكلمات التي يكتبها بمعدل أربع كلمات في الدقيقة، إلى كلمات مسموعة بصوت الجهاز.
وفي أحد المشاهد يعقد ستيفن مؤتمرا صحفيا يجيب خلاله على أسئلة الصحفيين باستخدام هذه الطريقة ، وذلك بعد ما يحققه من نجاح مع نشر نظريته عن الزمن، وانتقاله لعرضها في أميركا وما يحوطه من أضواء الإعلام، ثم الحصول على تكريم رسمي من ملكة بريطانيا .
نشر هوكينغ كتابه الشهير" A Brief History of Time "، وهو لا يزال حتى يومنا هذا على قيد الحياة.
قد نتفق مع هوكينغ وربما لا نتفق، لكن ذلك لا يمنع ان نتعرف على وجهـات نظـر العالم القديــر فى كل مايخص علوم الفلك والفيـزياء، وأيضـاً أن نتعلم منه جميعـاً الإرادة وعدم اليـأس.

"نظرية كل شيء" ليس فيلماً عادياً في الشكل والمضمون. إنه قصّة حبّ قد يبدو للبعض أنها تزخر بكليشيهات السينما الأميركية وذلك الحب الإلهي المقدّس لكنه فيلم وليد معاناة شخص عُرِف بكونه الأذكى في العالم. هو الفيزيائي الذي كان حلمه الكبير اسير جسده الضعيف. لكن شغفه بالمعرفة كان أقوى من تكاسل الجسد وضعف حيلته.

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]