د. جمال عبد العزيز أحمد:
..وهنا لطيفة من لطائف القرآن الكريم: أنه عند مسألة المغفرة والعفو والجنة تجد القرآن الكريم يقول:(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران ـ 133)، ولكنه عند السعي على الرزق، وتحصيل المؤنة أَمَرَ بالمشي، لا بالهرولة ولا بالمسارعة، كما رأينا في قوله تعالى:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك 15)، لكون الرزق مضمون في السماء، ولكن يتطلب السعي بهدوء وتبصر له، بينما المغفرة والجنة ففيها التنافس على أشده، ويتطلب الأمر عزْم النفس، وشحْذ الذهن، والتسابق في الخيرات، كما قال تعالى:(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة ـ 148).
فالسعي على الرزق يراد له التؤدة، والهدوء، والتأني، وطلب الحاجة بعزة نفس، وتقدير ذات، والسير باتزانٍوتهدُّؤٍ، يحفظ على المرء كرامته، وحياءه، وإنسانيته، غير أنه يتطلب السير في الأرض كلِّ الأرض، وعدم الرضا بالذلة، والمهانة، والضعف، والاستكانة، ومد اليد هنا، وهناك، وهنالك، والاكتفاء بحياة الدعة، ومدِّ اليد للآخرين الذين يكونون أصحاب اليد الطولى عليه، لا يتجرأ أن يفتح عينيْه بين أيديهم؛ فإن في ذلك إثما كبيرًا، ، وفيه إهانة للشخص المسلم، فيه إهانة بالغة قد حذرنا الله منها، وتوعد من يقتفي أثرها، ويمضي على منوالها بالعذاب المهين، وسوء المصير، فقال جلَّ جلاله:(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء 97 ـ 99)، فالاستضعاف في الأرض غيرُ مقبول، لأن أرض الله واسعة، وإذا لم يجد المرء في الشرق متسعًا انتقل إلى الغرب، وإذا وجد في الغرب تضييقًا عليه في رزقه وعبادته رحل إلى الشمال، كل ذلك بكل عزة، وكبرياء، وكرامة، وهدوء، كما كان يقول سلفنا الصالح إذا لم يسترحْ في مكان، ويتمكنْ من عبادة ربه فيه، وتحصيل رزقه تركه إلى غيره، كقول لبيد بن أبي ربيعة:
تَرَّاكُ أمكنة ٍ إذا لم أرْضَهَا
أوْ يعتلقْ بعضَ النفوسِ حِمامُها
وقريبٌ منه قول الله تعالى:(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة ـ 10)، حيث نَصَّتِ الآية الكريمة على أنه:(إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله)، فالسعي هو السير باهتمام، واتخاذ الطريق بعناية وانتباه، وألا يلوي المرء على شيء، وأن يمضيَ في سبيله كالسيف الماضي، فهذا سبيلُ تحصيل الثواب، وكما سبق هو ميدان للتنافس، كما في قولهتعالى:(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين 25 ـ 26)، ففي الخير، وعمل الصالحات نسارع، ونتنافس، ونسعى بكليتنا، بينما في نوال الرزق، وتحصيل القوت والعيش الحلال نمشي، ونسير، وننتشر بكل هدوء، فإذا قُضِيَتِ الصلاة فعلينا أن ننتشر في كل مكان؛ لابتغاء فضل الله، مع استصحاب الذكر المتواصل، والشكر المتتابع لله، والانتشار هنا وهناك؛ ابتغاء فضل الله، شريطة ألا تقعدنا طلباتُ الدنيا ـ من البيع والشراء، والأخذ والعطاء عن ملازمة ذكر الله، بل لا بد منه في قضاء مصالحنا الدنيوية؛ ولذا كان السلف الصالح يخرج بعد الصلاة مباشرة، ويحقق معنى الانتشار المطلوب، ويطلب الرزق من الله، فقـد ذكرت كتـبُ التفسـير أن:(عراك بن مالك كان إذا صلى الجمعة انصرفَ، فوقفَ على باب المسجد، فقال : اللهم، إني أجبتُ دعوتك، وصليتُ فريضتَك، وانتشرتُ كما أمرتَنِي، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقي) كما ذكر ذلك القرطبي وغيره، بل كانَ بعضهم يخرجُ بعد الصلاة مباشرة، وينتشر في ربوع الأرض تحقيقًا لدلالة الفاء من جانب، ودلالة الفاء، وهي التفشي والانتشار من جانب آخر، لينال ثواب العمل بالقول الشريف، وليؤكد على أن الإسلام دين عبادة، وعمل، دين طاعة، واكتساب، وألا يعال المسلم من أحدٍ إن كان قادرًا على السعي، ومتمكنًا من العمل، وأنه لا يجوز تكفف الناس مع القدرة على التكسب، والسعي، وأنه من الوجوب بمكان أن يسعى المرء على الرزق، والعمل، والكد، والسعي ما دام قادرا على ذلك، ولا يمنعه منه مانع.
* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]