خالد بن خميس المويتي:
يختلج في قلوب المؤمنين ومنذ اللحظات الأولى لشهر شوال شوق عارم يشدهم لأداءفريضة من أعظم الفرائض ألا وهي حج بيت الله الحرام، وهو شوق بديهي يشد كل مسلم لزيارة قبلته التي يسجد إليها مصليًا صباح مساء، وهو توافد طبيعي من شتى أقطار العالم يجذب كل مسلم إلى تلك البقاع الطاهرة للوقوف على خطوات نبي كريم (صلى الله عليه وسلم) أخذنا عنه مناسكًا، قال (عليه الصلاة والسلام):(خذوا عني مناسككم)، ولترسم خطى أبي الأنبياء حين أمر بذبح فلذة كبده وإنه والله ابتلاء عظيم، ولنتأمل قلب الأم الرؤوم هاجر وهي تهرول بين الصفا والمروة والرضيع عليه السلام يعلو صوته جوعًا وخوفًا، ينطلق كل مسلم رافعًا صوته ملبيًا صادحاً باستسلامه الخالص لرب كريم يقبل كل من ناجاه، جاءوا يمتطون ضوامر هذا العصر من الطائرات والقطارات والمركبات والسفن المبحرات، يدفعهم لذلك الاستجابة لأذان خليل الله إبراهيم (عليه السلام) حين أمره الله تعالى بأن يؤذن في الناس بالحج: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).
فمنذ ذلكم الأذان وما فتئ الحجيج ولا انقطعوا عن التطواف بالمشاعر العظام، والوقوف بالعراص الطاهرات، فهذا من شرق الدنيا وذلك من غربها وآخر من الجنوب ورابع من الشمال، وتلك فجاج عميقة متباعدة الأطراف، وما ذلك إلا آيةً عظيمةً شاهدة على أهمية هذه الشعيرة المباركة، وعلى عالمية رسالة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم)، فبينه وبين أبيه إبراهيم شرائع مختلفة وقرون متعددة، وحقب متباينة، ولكن يأبى الله إلا أن يعود زمام الحج إلى المسلمين مجددًا فلم يكن إبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي تدعيه اليهود والنصارى إلا حنيفًا مُسلمًا.
إن المرور ببعض مشاهد الحج يرقق القلوب ويشجع على أداء هذه الشعيرة العظيمة بشوق، فإلى المشهد الأول: حال زيارة المدينة المنورة، هذه المدينة التي أسس فيها نبينا الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) قواعد الإسلام المتينة، هذه المدينة التي استقبلته (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه معه، هذه المدينة التي ارتفعت منها راية الإسلام خفاقة في الآفاق، لنحظى بصلاة ركعتين في الروضة المشرفة، تلك الروضة التي قال عنها (صلى الله عليه وسلم):(بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، مدينة رسول (صلى الله عليه وسلم) وكيف بك وأنت تتنقل في خطى خطاها حبيبنا (صلى الله عليه وسلم) وصحبه من بعده.
والمشهد الثاني: عندما يزور الحاج مقبرة البقيع ، تلك المقبرة التي دفن فيها أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن أجمعين، هؤلاء الأمهات اللواتي كان لهن دور في إيصال العلم إلينا، بل لهن فضل على الإسلام ، كما حدث عندما أمر النبي (صلى الله عليه وسلم)أصحابه أن يحلوا من العمرة بعد أن أحصروا على يد قريش فكرهوا ذلك وقالوا: يا رسول الله أنرضى الرقة من ديننا، ألم تخبرنا بأننا سنطوف حول البيت ؛ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مهمومنا على أمنا أم سلمه، فسألته: ما خطبك يا رسول الله؟، فاخبرها الخبر، فقالت له: اخرج فأمر حالقك فليحلق لك وتحلل من عمرتك، فلما رأى الصحابة ذلك اخذ يحلق بعضهم بعضًا، وبهذا الموقف العظيم استطاعت إرجاع اللحمة الصف.
والمشهد الثالث: الوقوف على موقعة أحد ومقبرة الشهداء العظماء، ولنستشعر أن هذا الدين لم يصل إلينا بالهوينا، بل سُفك في سبيل وصوله الدماء، وعلى رأسهم عم النبي (صلى الله عليه وسلم) حمزة بن عبد المطلب، ثم الوقوف على تلة الرماة، ولنستشعر ما حدث عندما خالف الرماة أمر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكيف دارت عليهم الدائرة، ولنتفكر كم أمر من أوامر النبي (صلى الله عليه وسلم) نحن عنه معرضون، فهل نأمن أن تدور علينا الدوائر.
والمشهد الرابع: الطواف حول البيت العتيق، هذا البيت الذي رفع بنيانه الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهما السلام)، ومن ذلك الحين والحجيج يطفون بهذا البيت، ولنستشعر عظمة التسليم لأمر الله فنقبل حجرًا ونطوف حول حجر، قال عمر بن الخطاب عند تقبيله للحجر الأسود:(والله إني اعلم انك حجر لا تنفع ولا تضرولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك(.
والمشهد الخامس: الشرب من بئر زمزم، هذا البئر الذي هزع _نبع _ من تحت قدمي إسماعيل (عليه السلام)، هذا البئر الذي كان ولا يزال معينا لا ينضب، ومهما شربت منه فانه لا يؤثر عليك، قال عنه (صلى الله عليه وسلم):(زمزم لما شربت له)، وقال (صلى الله عليه وسلم):(زمزم طعام طعم وشفاء سقم).
والمشهد السادس: السعي بين الصفا والمروة، هلّا استشعرنا عظم مصيبة هاجر أم إسماعيل (عليه السلام) عندما كانت تهرول في واد غير ذي زرع لكي تبحث لطفها عن ما يقتات به، هلا وقع في قلوبنا ونحن نهرول بين الصفا والمروة، كيف كان حالها وهي تخاف على ابنها من الهلاك جوعًا فتبحث له عن الطعام، وتخاف عليه من الهلاك بشي من الدواب فتهرع إليه كلما ابتعدت عنه.
والمشهد السابع: المبيت بمنى، هلا استشعرنا استسلام الحجيج لأمر الله ورسوله، وبقاءهم في منى مع أن مكة بجوارهم، ويصلون صلواتهم بمنى والكعبة بجانبهم، ما هو إلا انقياد لأمر الله ورسوله.
والمشهد الثامن: الوقوف بعرفة، هل جال في خلدنا أن الوقوف بعرفه هو حشر مصغّر، يجتمع فيها الصغير والكبير، الرجل والمرأة، الأبيض والأسود، العربي والأعجمي، الغني والفقير، كلهم يقفون في صعيد واحد بثوب واحد، حاسري الرأس، جميعهم يسال الله بلغته، وتسيح دموعه على خده رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى.
والمشهد التاسع: رمي الجمار، هذه الجمار التي ما فصلت ذلك التفصيل الدقيق، إلا لتبين لنا جهد إبليس اللعين ليثني إبراهيم عليه السلام كي لا ينفذ أمر ربه في ذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام)، فيعرض أولاً لأمه فترجمه سبعًا، ثم يعرض لإسماعيل فيرجمه سبعًا، ثم يعرض أخيرًا لإبراهيم (عليه السلام) فيرجمه سبعًا.
والمشهد الأخير: طواف الوداع وكيف أن الحاج لا يخرج من مكة، إلا بعد أن يودع بيت الله الحرام، وما هي إلا إشارة انه ضيف لله، والضيف لا يغادر مسكن مضيفه إلا بعد إذنه فهو يودع الله في بيته البيت الحرام.
* كاتب عماني