محمود عدلي الشريف:
أيها القراء الأكارم.. من ظنَّ أن الفطرة البشرية والطبيعة الخلقية للجنس البشري مختلفة فقد أخطأ، فالتركيب العضوي واحد، والاحتياج الجسدي واحد، وردود الفعل الشعورية واحدة، فما يستدعي البكاء فإن أي آدم يبكي وما يستدعي الضحك فأي آدمي يضحك، مهما اختلفت أعراقهم وأصولهم وجيناتهم وطبيعة نشأتهم وأماكن تواجدهم، ومهما انقسموا إلى شعوب وقبائل أفرادا وجماعات، ومهما كان المستوى المعيشي لهم بين البداءة والجاهلية، أو بين التطور والحضارة، الإنسان هو الإنسان،فأصلهم واحد هو التراب، وأبوهم واحد وأمهم واحدة، واختلاف طبائعهم وثقافاتهم ومعيشتهم ومتعقداتهم هي حكمة من حكم رب العالمين،وفي الحديث الذي ذكره صاحب كتاب (أخبار مكة للأزرقي 2/ 121)وغيره:(أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ الْبَيْتَ،.. إلا أن قال: أَلَا إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَبُّرَهَا بِآبَائِهَا، كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.. الحديث).
ومن هنا ندرك أن الميول الفطري للبشر هو واحد عموما، وعلى وجه الخصوص في الحديث عن الاعتقاد، فالمعتقد هو شيء فطري في البشر، جبلهم الله تعالى على ذلك، فعندما أودع أجسادهم الروح كانت الروح دائما تسعى إلى خالقها، وقد تضل الطريق فتظنه في نار كما صنع المجوس، أو تظنه في بشر كما صنع عباد فرعون، أو تظنه في كوكب كعباد الشمس، أو تجد مأربها في صنم من حجر أو ثن من شجر أو مادة، أو تظنه في طير أو حيوان كمن يعبد البقر.. وما إلى ذلك، فـ(عنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ .. الحديث)(مختصر صحيح مسلم للمنذري، ت: الألباني 2/ 523)، وربما تظنه في هوى فمن لا يدعي أنه لا يعبد شيئا فهو يتخذ إلهه هواه، أو تهتدي إلى خالق كل ما سبق بل الكون كله الإله الحق، الذي ارتضي لخلقه الإسلام دينا، فالإسلام دين الفطرة الذي يجد المسلم فيه راحته الروحية والعقدية والجسدية، فهو دين متكامل ليس كتلك المعتقدات التي تعتمد على الفكر والتأمل فقط، أو كتلك التي تعتمد على الهوى واللاإلزامية، أو كتلك التي تعتمد على المادة، ولكنه دين جمع كل ما يلزم النفس البشرية لتكون في معية خالقها موقنة بوجوده راضية بقاءه تشتاق إلى لقائه، بل يملأها حبه سبحانه وحب أنبيائه ورسله وكتبه، فهي تركن إلى خالقها ومبدعها، ولأنه سبحانه أحاط علمه بكل شيء وضع للناس بيتًا مُباركًا يأوون إليه، فتروي منه نفوسهم، ويقوى به إيمانهم، وتغفر فيه ذنوبهم، لا يكلّون من زيارته ولا يملّون من الحج إليه، فالرغبة في الذهاب إليه حاجة ملحة في صدور الموحدين، ومضمون ما فسرَّ به الأئمة هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا، من كونه مثابة للناس، أي جعله محلا تشتاق إليه الأرواح، وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرا ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى، لدعاء خليله إبراهيم (عليه السلام)، في قوله:(فَاجعَل أَفئِدةً مِنَ النَّاسِ تَهوي إِليهِم)(تفسير ابن كثير، ط: العلمية 1/ 290)،ويقول الشيخ أبو زهرة في (زهرة التفاسير 1/ 397): (المثابة: أي المرجع الذي يأوون إليه، والمثابة مصدر ثاب يثوب مثابًا، وثووبًا، أي: مأوى يأوون إليه عندما تشتد بأحدهم شديدة ويريد الالتجاء إليه سبحانه)،وقوله تعالى:(مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) فيه إشارة أولًا إلى أن الكعبة مثابة للناس، يجيئون إليها في حجهم، كما صرّح سبحانه وتعالى، وفيها قبلتهم إذ يثوبون إليها في الصلاة ويلتفون حولها التفاف الدائرة حول قطبها، فهم يتجهون إليها من كل أرض الله تعالى، لأن المؤدى أنها أمر من الله تعالى بأن يكون البيت مثابة للناس يرجعون إليه ويأوون ويحيطون به في صلاتهم إحاطة الدائرة بقطبها)(بتصرف يسير).
إذن كل المسلمين من جميع أنحاء الأرض من عربهم وعجمهم وقريبهم وبعيدهم أبيضهم وأسودهم غنيهم وفقيرهم كبيرهم وصغيرهم ذكورهم وأنثاهم من أقصى الأرض إلى أقصاها، بل لا يقل ذلك الشوق إلى بيت الله بين من ولد مسلما وبين من دخل في الإسلام حديثا، الكل على حد سواء، إذن هذه طبيعة خلقية دعمها الإسلام وفرض الله تعالى الحج لذلك، وهنا سؤال يطرح نفسه بإلحاح، ألا وهو: كيف تكون تلك طبيعة بشرية وهناك غير مسلمين، وهم لا يشتاقون بالطبع للبيت الحرام؟ والإجابة عليه ينطق بها الواقع قديمًا وحديثًا عبر تاريخ البشر، انظر إلى تلك المعابد من آلاف السنين، وانظر إلى المعابد الحديثة في عصرنا هذا التي يأتيها أصحاب النحل الضالة من كل صوب وحدب، فلماذا يذهبون إليها إن لم تكن فطرة على اختلاف نحلهم ومعتقداتهم الباطلة، ولكنهم لما كانوا يطنون أنهم على صواب وأن نحلهم صحيحة وجدوا ضالتهم في زيارة تلك الأماكن المخصصة للأداء طقوسهم، فإذا وقفنا في المنتصف ونظرنا يمينا لوجدنا البيت الحرام مثابة للمسلمين، وإذا نظرنا يسارا لرأينا أصحاب تلك المعتقدات يذهبون إلى المعابد والدور التي خصصوها لذلك، بل وتراهم لا يكلّون ولا يملّون من زيارتها، إذن فهي فطرة، ولكن الباطل سدَّ مسدَّ الحق، فشبه أهل الباطل ضلالهم بالحق الذي فطرهم الله عليه وضلوا عنه، إذن كانت أنفسهم تحتاج إلى مكان تعتقد فيه البركة والتعظيم فتركن فيه إلى معبودها، فأملت عليهم رغبتهم تلك ببناء تلد الدور فبنوها، وهنا تظهر عظمة الإسلام السامية، وكمالاته اللامتناهية، فقد وافق الفطرة التي جبلت عليها البشرية، ومن هنا نستطيع القول أن ما يتخذه أهل العقائد غير الإسلام من أماكن يعتقدون بقدسيتها، فهذا يدل على أن هذه الصفة من طبيعة البشر، ولهذا وضع الله تعالى للناس بيته الحرام مثابة لهم، لأنه تعالى يعلم أن هذه من كمال فطرتهم، ولو لم يتخذ غير المسلمين تلك الأماكن إرضاء لفطرتهم، لما كان الحج والزيارة من الفطرة الخلقية للبشر، وهذا مما يظهر صدق هذا الدين وأنه الدين الحق الذي شرعه الله تعالى للناس، ولو فكَّر أحدهم منصفًا في تفكير مُعمِلًا عقله حق عمله لاهتدى إلى الإسلام وحده.
*[email protected]