جودة مرسي
يقول رجل الاقتصاد الشهير جيفري ساكس في كتابه "ثمن الحضارة" "إن أي مجتمع يأمل في تحقيق الازدهار والرخاء لا يستطيع أن يترك أجزاءً كبيرة من سكانه عالقين في فخ الفقر". هذه الجملة قفزت إلى ذهني سريعا وأنا أتابع سرعة التأثير المباشر للحرب العالمية الثالثة الدائرة الآن عسكريا على الأراضي الأوكرانية، واقتصاديًّا امتدت لتطل برأسها وتأثيرها على معظم دول العالم، فأدت النتائج الأولية إلى حروب داخلية في شكل احتجاجات بعدد من الدول، والتي تتعلق بانعكاس العملية العسكرية الروسية الأوكرانية على الأوضاع المعيشية، مما ألهب الشارع ضد بعض الحكومات احتجاجًا على غلاء الأسعار، خصوصًا الدول محدودة الموارد أو التي تعاني من غياب العدالة الاجتماعية بكل مفرداتها الاقتصادية والتعليمية والصحية والوظيفية، فنرى الأكثر ثراءً المستفيد الأعظم من النمو الاقتصادي، في حين تزداد أحوال الفقراء سوءًا على سوء خصوصا في فترات الحروب والكوارث.
وعلى سبيل المثال، تلك الاحتجاجات العارمة التي شهدتها الإكوادور وسريلانكا بسبب تعامل الحكومة مع الأزمة الاقتصادية، مما أدى إلى فرض حظر تجوُّل بعد اشتباكات عنيفة للمتظاهرين المناهضين للحكومة في كولومبو، ليكون ترجمة فعلية في أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية هو المحرك الأساسي لخروج أي احتجاجات، وسنشاهد العديد من تلك الاحتجاجات خلال الأيام المقبلة في العديد من الدول الفقيرة غذائيا والفقيرة في الموارد المالية، نتيجة اعتمادها على استيراد المواد الغذائية من الخارج والتي ارتفعت أسعارها بشكل كبير، ولأسباب أخرى أدت لإهمالها تأمين الاحتياجات الغذائية الاستراتيجية، منها عدم وجود الأراضي الصالحة للزراعة، ندرة المياه، الطقس غير المناسب، غياب الإمكانات والتكنولوجيا الزراعية، غياب الوعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي، أو عناصر خارجية وداخلية ضاغطة من أجل الاستيراد.
أمام تلك الجائحة الاحتجاجية القادمة، يجب أن يطرح الحل قبل أن يمضي الوقت ويمتد قطار الاحتجاجات ويخرج عن المسار، وهو وجوب أن يكون قطاع الزراعة صاحب الجزء الأكبر للاقتصاد الحقيقي، خصوصا في الدول التي لم تلحق بتكنولوجيا الصناعة ويوظف الغالبية العظمى في قطاع الفلاحة، من أجل القضاء على غلاء أسعار المواد الغذائية المستورة، ويجب أن تكون هذه هي الوصفة المناسبة للمستقبل، وأن يعرف المسؤولون أن الأمر سيطول أمده وتأثيره ـ ومن يظن أن الحرب العالمية الثالثة لم تأتِ بعد فهو مخطئ في حساباته؛ لأن ما يشهده العالم من تأثر وتحالفات يتم الإعداد لها، والتدرج في نوعية الأسلحة المستخدمة يشير إلى أن الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعل، والقادم أخطر لو لم تتدارك الحكومات والشعوب أهمية توفير أمنها الغذائي، وما كانت أزمة كورونا وتأثيرها الاقتصادي والإغلاقات والوفيات إلا مجرد تجربة استعدادية، ومقدمة لمعرفة نتائج الأزمات القادمة. إن كمية الاحتجاجات والصرخات من النقص العالمي في الغذاء والطاقة تثقب الآذان من قوتها، ونحن ما زلنا في البداية ولم يمر على الحرب سوى أربعة أشهر، مما يعني أنه على تلك الحكومات أن تعيد بوصلة الاقتصاد والتنمية إلى مسارها الصحيح، الاعتماد على مواردها، ونشر الوعي، لا بُدَّ من إرساء أُسس بناء مجتمعات أكثر شمولا. مجتمعات أكثر ثراء، فالسياسات التي تمد الخدمات الاجتماعية وتوجد حوافز اقتصادية وتجارية جديدة للمجتمعات الريفية المنتجة للمواد الغذائية تشكل ضرورة أساسية. وكذا أمر تنمية البنية الأساسية.
إن تحقيق الغاية النبيلة في إنقاذ الشعوب من ويلات الحروب شيء مجيد، وعلى الجميع الثري والفقير أن يعلم أنه في نتائج الحروب الكل يصعد إلى قارب واحد، يجابه الأمواج لينشد النجاة، وأن من يظن أنه بعيد فليعلم أن قاربه عالقًا في الرمال.