سعود بن علي الحارثي
سادسا: سان جيمنيانو.
كيف تمكن الأوروبيون من بناء مدنهم وقراهم الكبيرة منها والصغيرة، بهذه الفخامة والبذخ والجودة والمتانة، وبعضها مسح عن وجه الأرض بسبب الحروب العالمية والإقليمية والأهلية المدمرة التي شهدتها أوروبا على مدى القرون الماضية؟ كيف تسنَّى لهم أن يقدموا للعالم، نموذجا للجمال والأناقة والفن البديع في تصميمهم المعماري اللافت للنظر والمريح للنفس المتجاوب مع الشعور الإنساني الرقيق بتناسقه وتكامله؟ لماذا يجذبنا كل ميدان عام وزقاق يربط بين الحارات والشوارع والأسواق والساحات، وكل بناء حديث وصرح ومعلم تاريخي ونصب تذكاري وتمثال فني يحتشد بالمعاني والدلالات...؟ فنرى فيه البراعة والإتقان والفن الإنساني الجميل، ونتوقف أمامه مذهولين معجبين مدهوشين بهذه اللمسات الجمالية غير العادية، والمتانة والقوة والجودة في البناء وتفاصيل العمارة التي تسلب عقل الإنسان وتأسره وتطرح عليه الكثير من الأسئلة التي لا يليق بالإنسان السوي إلا أن يطرحها؟ لماذا نرى هذا الاهتمام بالعمارة والحرص على جمالها والحفاظ على فنِّها القديم في التصميم والشكل واللون والنقش والإبقاء على روح الماضي تتنفسه في كل جزء منها؟ هذه الميادين والساحات العامة التي تحتشد بالبشر وينشط فيها الفن بأنواعه، وتجذب أبناء المدينة والقرية وتجمعهم يوميا في مقاهيها ومطاعمها وأسواقها ومناسباتها... ألا تمثل رئة المدينة ومتنفس سكانها ومركز معالمها وصروحها التاريخية وتعكس ثقافتها وتاريخها وتقاليد مجتمعها؟ وينسحب الأمر على المباني القديمة والمتاحف والكاتدرائيات ومراكز الفنون والتراث والأزقة والأقواس والنوافير والتماثيل... وكل معلم له رمزيته في إسعاد الإنسان، وربط المواطن بمدينته وقريته؟ لماذا لا تعتدي المدن العصرية والعمارات والأبراج الشاهقة والمصانع والمشاريع والأنشطة الحديثة على المدن والحارات القديمة والأراضي الزراعية والغابات وعلى الطبيعة، كما يحدث معنا في البلدان الخليجية حيث توحش الغابات الإسمنتية واستيلاؤها وغزوها وهيمنتها على كل ما هو جميل وقديم وعزيز ويرمز للتاريخ والثقافة والطبيعة، فكان هذا التشوه الذي نراه في كل ملمح من ملامح مدننا التي مسحت حياتها القديمة من الوجود وحلت محلها البنايات والأبراج والمجمعات التجارية والمصانع والأسواق الحديثة؟ إنها أوروبا التي تفتن السياح بجمالها الصارخ وبذخ وتناسق مدنها وتاريخها وثقافتها وتقاليدها القديمة وأبهة عمارتها، وسياستها الاستعمارية أسهمت دون شك في هذا المنجز الفريد الذي تتميز به دون غيرها من مناطق العالم، فكم من الثروات والأموال التي ضختها من البلدان الضعيفة التي هيمنت عليها ونهبت مواردها لقرون. الطرق الرئيسة والسريعة في إيطاليا تفرض رسوما على مستخدميها، لذلك تنتشر مراكز تحصيلها في نهايات وبدايات الشوارع، ويتم دفع المبالغ في الكثير منها إلكترونيا، والحركة انسيابية وسهلة خالية من التعقيدات والإجراءات المعيقة للمركبات. فيما تعتمد سياسات إنشاء الطرق والشوارع على الأنفاق في عبور المناطق المرتفعة والجبال التي تمثل نسبة كبيرة من مساحة إيطاليا، وتمتد هذه الأنفاق أحيانا لعدَّة كيلومترات، وتشكل مسافات طويلة تصل إلى حوالي ٨٠% لبعضها وفقا لتقييمي الشخصي. العرب وجدوا في هذه البلاد فرص العمل والتجارة وتأسيس مشاريع مختلفة، عراقيون، مصريون، مغاربة يمنيون، سوريون... التقينا بهم وتحاورنا معهم وتبضعنا من أيديهم، منهم من أسس محله منذ عقود، وفيهم من بدأ حديثا وينتقل بمشروعه من نجاح إلى آخر، وآخرون يعملون في مهن وحرف متواضعة وباعة في الشوارع، وكثير منهم لا يزال يبحث عن ذاته في هذا العالم الرأسمالي المتوحش، ويفتش عن فرص العيش الكريم في مناطق وعند مجتمعات وبين أناس قد يكونون أكثر رحمة وعطفا وإنسانية وتعاونا من بلادهم وبني عمهم ورحمهم الذين ألقوا بهم خارج بيئاتهم وأوطانهم التي يعشقونها ولا يرضون بها بديلا مهما كانت المغريات، لولا الحروب والصراعات والتصفيات التي يشعلها أبناء جلدتهم، ولولا الظلم والملاحقة والفساد وغياب العدالة والمساواة. في الساعة الثامنة من صباح يوم الخميس الموافق ١٢ مايو ٢٠٢٢، انطلقنا من "فلورنسا"، إلى العاصمة الإيطالية "روما"، مرورا بعدد من المحطات المهمة في الخريطة السياحية الإيطالية، التي تحتشد بالمدن التاريخية والمعالم السياحية والصروح الحضارية ومشاهد الطبيعة الخلابة... ولا تحتاج إلى من يبحث عنها ويتجشم عناء ومشقة الوصول إليها، فهي من الوفرة والغزارة والثراء ما شكل لنا لبسا وحيرة إلى أي منها نتوجه ونختار ونتوقف، فقد كانت التلال والقمم الجبلية تعرض علينا عشرات المدن والقرى الأثرية والتاريخية التي تطل وتشرف على طريقنا الذي نسير فيه نحو "روما"، وأذرع الأصدقاء تلوح نحوها لتلفت أنظار الرفقاء الموزعة بين شرق وغرب، فيما برنامج الرحلة المعد بعناية، وغزارة المعلومات التي جمعها رفيقنا في الرحلة، والمشرف عليها، وقائد السيارة البارع "أبو باسل" خلفان الرشيدي، الذي يتنقل بها بين مقاطعة وأخرى وبلد ومدينة، وفرت علينا الجهد والوقت وأسهمت في استثمار كل دقيقة لتحقيق غايات ومقاصد السفر، والتوقف في محطات ومواقع عالية القيمة تاريخيا وسياسيا ومقصدا عالميا... مثل قرية "كاستيلينا"، التي تتميز بمنازل حجرية وأزقة ومحال تجارية متكاملة في نفق مخفي في باطن الأرض، وشلالات "كاسكات ديل مولينو"، الكبريتية، وحدائقها الغناء، التي تستقطب السياح للاستجمام والعلاج في مياهها الصحية وأشجارها الوارفة وأزهارها الفواحة بالعطور الزكية. وبعد محطات ومشاهدات شملت عددا من المواقع، وفي غفلة من الزمن، توقفت بنا السيارة على مشارف لوحة فنية من طراز آخر، لوحة فلتت من عالم بعيد جدا عن زمننا، فهل هي أجمل وأهم مدينة في الأرض؟ بل هل توجد في الدنيا مدينة خرافية جاءت إلينا من العالم الآخر؟ هل لدى الإنسان القدرة على صنع مدينة بهذه الإمكانات المذهلة والقدرات الهائلة والجمال المفرط والبذخ المبالغ فيه؟ هل خطط السابقون وفكروا وأرادوا تخليد أعمالهم وتوثيق عبقريتهم وإثبات قدراتهم العظيمة في هذه التحفة الفنية الخالدة، فأسسوها لتبقى على ما هي عليه ثابتة صامدة شامخة جيلا إثر جيل؟ هل سأبقى جامدا في مكاني ثابتا لا أتحرك، متأملا مدهوشا حائرا، أطرح الأسئلة، وإلى متى؟ ألم آتِ إلى هنا للاستكشاف والتطواف والتعرف على المدن والحضارة والثقافة الإيطالية؟ إذن عليَّ التحرك نحو المعالم والصروح والأبراج والهياكل الضخمة التي تطل عليَّ من التلال العلوية، فأكتشف هذه المدينة بالتوغل في أحشائها ودواخلها، ولأتبين ما تخبئه لنا من مفاجآت، فأنا حالي كحال معظم الناس الطبيعيين، تبهرني هذه الإنجازات الإنسانية الفريدة من نوعها، في تعبيرها الصارخ عن العبقرية الفذة والإرادة الصلبة التي تناطح الصخر فتفتده، تهزني هزا، تشتت أفكاري، تحاصرني، تضعني في مأزق الأسئلة العويصة التي تبقيني في "حيص بيص"، أسئلة معلقة تتناسل من رحم الجدر والأقواس والأبراج والجادات والنقوش والتماثيل والأعمدة والسراديب... فأنا في مدينة يصعب تصديق أنها من صنع البشر، فللممالك والحضارات والدول والأنظمة السياسية والامبراطوريات طاقات وقدرات وإمكانات محدودة، خصوصا إن كانت من العصور الوسطى، وبوسائل المرحلة وأدواتها ومعداتها وأجهزتها المتواضعة، ولو أننا نعيش في عصور ماضوية في بيئتنا المغلقة وأفكارنا الضيقة نتموضع في زوايا الجهل والتخلف، لقلنا بأنها مدينة من وحي الخيال أو صنع السحرة أو أن الجان هم من أقامها، ما هذه القوة والفخامة والبذخ التي بنيت بها مدينة "سان جيمنيانو"، قصور وكاتدرائيات وكنائس وأديرة وأبراج تناطح السحاب، حارات وساحات عامة وأزقة وأسواق وسور يحيط بالمدينة ببواباته الأربعة، تعيش في زهو وسمو واعتداد، وتحتفظ ببهائها وقوة بنيتها التحتية وأناقتها ومظهرها العام، فلم يؤثر عليها الدهر ولا كوارث الطبيعة وجوائحها، تحدٍّ غير طبيعي، مشهد سريالي يبهر العقل ويسلب خاصية التفكير، ماذا أكتب عن هذه المدينة، ومن أي زاوية أنقل المنظر؟ وأي صورة يلتقطها هاتفي قد تعبر ـ أو تقرب ـ ما أراه من فخامة وجمال؟ هذه المدينة هي الوحيدة التي تمتلك خاصية نقل الإنسان من الحاضر إلى الماضي البعيد، ليعيش مع الإنسان القديم، ثقافته ومحتوى تفكيره ونمط معيشته وأدواته التي يستخدمها، خاصية ليست من وحي خيال مؤلف أو فيلم سينمائي، هي الحقيقة في أبهى صورها سيكتشفها من رغب وأراد، في هذه المدينة العريقة التي وصلت إلينا سالمة صحيحة قوية مثلما هي قبل مائة عام أو أكثر. فبحسب "وكيبيديا" ـ أجريت تعديلا لا بد منه في الصياغة ـ فإن "سان جيمنيانو" "تشتهر بأبراجها العالية من القرون الوسطى التي تشبه ناطحات السحاب، وتقع على تلة مرتفعة حوالي 350م عن سطح البحر. وقد أسَّسها الاتروسكان في القرن الثالث قبل الميلاد ثم انضمت للحكم الروماني، بدأت في التطور في القرن الحادي عشر، وأصبحت قوة مستقلة سنة 1199، وهي مليئة بالفن والعمارة العائدة للعصور الرومانية والوسطى وعصر النهضة، ويرجع تصميم برج التجارة العالمي في نيويورك من برج مماثل ما زال قائما في سان جيمنيانو. ومن مائة برج كانت موجودة في القرون الوسطى أصبح الآن يوجد 15 برجا لا تزال قائمة". إنها إيطاليا حضارة عريقة موغلة في التاريخ الإنساني، وموطن للفن بكل أنواعه وانتماءاته.