د. أحمد مصطفى أحمد
جاءت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى مسقط هذا الأسبوع في وقت تنشط فيه التحركات الدبلوماسية في المنطقة بقوة، ليس فقط استعدادا لقمة يحضرها الرئيس الأميركي جو بايدن في جدة الشهر القادم ولكن في سياق انفتاح عام في المنطقة والتوجُّه نحو ترتيبات جديدة تتضمن تعزيز علاقات العدد الأكبر من دول المنطقة مع بعضها البعض. والهدف النهائي لعواصم دول مجلس التعاون الخليجي، ومعها مصر والأردن والعراق، هو التأسيس لمرحلة جديدة من التعاون الإقليمي غير المعتمد حصرا على العلاقات الخارجية مع القوى الرئيسية في العالم بشكل كامل. ومع أن ذلك لا يعني أبدا تراجع العلاقات مع القوة الرئيسية في العالم، الولايات المتحدة، والغرب عموما لكنه أيضا يعني أن المنطقة قطعت شوطا على طريق تقديم مصالحها الوطنية والإقليمية على أي شيء آخر. وبالتالي ليست هناك علاقات "حصرية" بهذا الطرف أو ذاك على الساحة الإقليمية والدولية، وإنما الانفتاح على كل الأطراف وعلاقات متوازنة مع الجميع تعتمد أساسا على المصالح المشتركة وتبادل المنفعة بما يخدم السياسات القطرية والإقليمية للدول الخليجية والعربية المعنية.
ولطالما كانت تلك أهم ميزة في السياسة الخارجية التي أرسى قواعدها المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد، ويعززها ويطورها جلالة السلطان هيثم بن طارق. فسلطنة عُمان تحافظ على علاقات طيبة بالجميع وتنأى بنفسها عن أي تحالفات مرحلية تتغير بشكل كامل فيما بعد وتضر أكثر مما تنفع في أغلب الأحيان. وربما ذلك ما جعل كثيرين، حتى في الغرب، يصفون السلطنة بأنها "سويسرا الشرق الأوسط" – ليس فقط لحيادها الإيجابي وإنما أيضا لكونها قوة "مصالحة" وتفاهم بين أي أطراف في المنطقة تتوتر علاقاتها. ومنذ وصل الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في مصر بانتخابات رئاسية قبل نحو ثماني سنوات، والقاهرة تتبع نهجا يقترب كثيرا من نهج سلطنة عمان في علاقاتها الخارجية. وإن كان بالطبع يظل وضع مصر مختلفا لأسباب جيوسياسية وتاريخية معروفة. لكن، رغم الاختلاف ظلت العلاقات المصرية العمانية من أفضل العلاقات العربية على مدى عقود طويلة.
كانت سلطنة عُمان، وبلا ضجيج كما يفعل البعض، سندًا مُهمًّا لمصر وسوريا في السبعينيات خلال الحرب مع إسرائيل. وحين قررت مصر عقد اتفاق صلح مع إسرائيل قاطعتها الدول العربية، لكن سلطنة عمان ظلت على علاقتها بمصر. ذلك النهج العُماني المتميز لا يقتصر على مصر فحسب، بل إنه من الحقائق التي ربما لا ينتبه إليها كثيرون أن سلطنة عُمان ربما هي الدول العربية الوحيدة التي لم تتخلف يوما عن دفع مستحقاتها السنوية في جامعة الدول العربية، رغم أنها ليست أغنى الدول العربية ولا أيسرها من ناحية الأوضاع الاقتصادية. لكنها مسألة مبدأ، أرساه السلطان الراحل ويسير عليه جلالة السلطان هيثم. ومع مصر بالتحديد، تقوم العلاقات ليس فقط على أساس تقدير كل بلد للبلد الآخر وأهميته في المنطقة، ولكن لأسباب تاريخية تعود ربما إلى ما قبل نشأة كثير من الدول الحديثة في منطقتنا. إذ يشترك البلدان في ميزة قد لا يراها البعض مهمة جدا، لكنها في تصوري أساس قوي للعلاقات المتينة بين مسقط والقاهرة. تلك الميزة هي التاريخ، فالبلدان لديهما حضارة عريقة ممتدَّة عبر القرون. وأبناء الحضارات العريقة يتقاربون في الكثير مما يمكنه الصمود أمام متغيرات السياسات وتكتيكاتها الطارئة.
يعلق كثيرون على الجانب الاقتصادي في العلاقات المصرية العُمانية، وهو مهم بالطبع. ولا شك أن قادة البلدين يسعون لتطوير التجارة والتعاون الاقتصادي بينهما، وأيضا تسهيل الاستثمار المشترك في سياق عمليات الإصلاح الاقتصادي الواسعة التي يشهدها البلدان. وإذا كان حجم التجارة بين البلدين لا يزيد إلا قليلا عن نصف مليار دولار، فالآفاق تتسع لمضاعفة ذلك أكثر من مرة في السنوات القادمة. لكن الأهم هنا أن القمة المصرية العُمانية في مسقط تأتي على خلفية حدث بعيد عن المنطقة نسبيا لكنه مؤثر جدا فيها، هو الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا والتي يسعى الغرب لتكرارها على الصين بشكل أو بآخر. تلك الحرب والعقوبات أدت بالفعل إلى أزمة عالمية، أبرز ملامحها ارتفاع أسعار الطاقة وشح الغذاء وارتفاع كلفته. والأمر الأخير في غاية الأهمية، إذ تسعى مصر حاليا لزيادة إنتاجها من المحاصيل الغذائية الأساسية لتقليل اعتمادها الهائل على الاستيراد، خصوصا للحبوب مثل القمح. في الوقت نفسه تُولي سلطنة عُمان أهمية لتطوير قطاع الزراعة فيها لزيادة الإنتاج وتحسين نوعيته بما يضمن تقليل الاعتماد على الخارج. ولا شك أن التعاون بين البلدين في هذا الجانب، الأمن الغذائي، يخدم مصالح الشعبين المصري والعماني بل وربما المنطقة كلها.
من نافلة القول كما أن تعزيز العلاقات المصرية العُمانية مُهِم جدا لمسيرة التنمية لصالح شعبي البلدين، لكن الأهم أن نموذج مسقط ـ القاهرة يمكن أن يكون نواة لتطوير الانفتاح الحالي بين أغلب دول المنطقة وانضمام دول أخرى إلى مسيرة تعاون أوسع يضمن التنمية المستدامة من أجل تحقيق السلم والأمن وتحسين أحوال المعيشة لشعوبها. ولا شك أن تلك الأرضية المشتركة التي يعمل عليها قادة البلدين الآن وفي المستقبل القريب.