محمود عدلي الشريف:
أيها الحجاج المخلصون لربكم.. وأسأل الله لنا ولكم حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفوراوتجارة لن تبور،وهنيئا لكم جميعاأيها الحجاج الذين كُتب لكم الحج هذا العام طوبى لكم وحسن مئاب. ولتعلم أخي الحاج أن الحج من أركان الإسلام ودعائمه الخمسة وقد جعله الله تعالى للمستطيع،وذلك لأنه تعالى رحيم رؤوف بالفقراء والضعفاء والمرضى الذين لا يستطيعون الحج، وهنا تتجلى رحمة الله تعالى بك أخي الحاج وقد اختارك سبحانه لتكون ضيفا عليه في بيته الحرام، وحق على المزور أن يكرم زائره فقد أُخترت أخي الحاج لتُكرم وتتكرم في بيت مولاك الذي وضعهسبحانه للناس مباركا وهدى للعالمين، فلابد أن تقدر هذا الاختيار وتكون على قدره ومستواه فالذي دعاك هو رب العالمين، فمثلا لو دعاك مسئول عظيم أو شخصية مرموقة لكان لك من الاستعدادات ما لك، ومن التهيئة والتحلية والتخلية الكثير، فمالك بخالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل. ولهذا أذكرك ونفسي ببعض الأمور التي تصل بها بفضل ربك إلى درجة النقاء، ونقائك أخي الحبيب له ثلاثةجوانب، الجانب الأول جانب الروح: ويكمن في زيادة الإيمان وملئه جنانك، واليقين بأركان إيمانك، والعمل بالإسلام ودعائمه، مما يزيدك شوقا إلى ربك والتطلع إلى لقاءه،ونزه نفسك عن الالتفات إلى زخارف الدنيا وبهرجها، وصفي سريرتك من مراقبة غير الله والانشغال بغير حضرته سبحانه،واستخلص روحك للعكوف على طاعة مولاها، واجعل محبتك لله هي غايتك القصوى فبها يعرف الإيمان وبها تنال الجنان وبها رضا الرحمن،ويروى (أن عيسى ـ عليه السلام ـ مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى فقالوا الخوف من النار فقال: حق على الله أن يؤمن الخائف ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيرا فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا: الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً كأن وجوههم المرائي من النور فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا: نحب الله عز وجل فقال أنتم المقربون أنتم المقربون)(إحياء علوم الدين 4/ 295). واجعل مبتغاك والذروة العليا الدرجات العلا في الجنة، أخي الحاج واملأ قلبك بالشوق إلى الله والأنس به والرضا بقضائه والإنابة والتوبة إليه، ولا تشغل نفسك إلا به فأنت له وملكه فكيف تنشغل بغيره وأنت في ملكه.وثانيها الجانب النفسي: ونقاء نفسك أخي الحاج الكريم بإيقافها وهي محملة بأثقالها وابحث فيما تحمل، فإن كان ما تحمله نفسك غلا أو حقدا أو كراهية أو ضغينة أو حسدا أو كذبا أو خيانةإلى غير ذلك من تلك الصفات السيئة فخلها عنها وانزعها منها، ولا تجعل في نفسك من هذه الصفات شيئًا، مقتديًا في ذلك بنبيك وحبيبك محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي كان خُلقه القرآن، وكان قرآنا يمشي على الأرض، وكانت بعثته (صلوات ربي وسلامه عليه) لإتمام مكارم الأخلاق، ومن هنا وجب عليك وأنت تقصد بيت الله تعالى أن تنزل ما حملته نفسك من صفات سيئة وألقى بها في مجاري الرياح إلا غير رجعة، ودع عنك سواها في جميع أركان حياتك من الآن وليس بعد قليل، وحملها بدلا منها كرما ومحبة وتواضعا وسماحة ولين جانب وصدق وأمانة وحسن خلقوالصبر والزهد إلى غير ذلك مما اصطفي من مكارم الأخلاق، تخلق بأخلاق المؤمن الحق قبل حجك وفيه وبعده، فأما قبل الحج فتب إلى الله عن غفلتك وتقصيرك في جنبه، وأما في حجك فسامح الناس وتفهم ظروفهم وتلطف بهم، فأنت في أشرف بقة في الوجود، لا تزاحم ولا تجادل ولا تبغض ولا تدافع الناس وحب لأخيك ما تحب لنفسك،وأما بعد حجك فاعلمأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، فلا تجنح إليها واتركها وطلقها ثلاثةفهي فانية، فان من فيها، ولا تحمل لها هما فالهم أعظم المخاطر وأجسم المصاعب، (ويقال إن الهم الذي يدخل على القلب والعبد لا يعرف كأنه ظلمة الذنوب والهم بها وشعور القلب بوقفه الحساب وهول المطلع أهم منها)، واعزم عزمًاوقصدًاأكيدين على أن تنشغل بعبادة ربك ، فقد رجعت من حجك مبرورا بإذن الله كيوم ولدتك أمك، ففي (صحيح البخاري 2/ 133) أن (أَبَا هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ:(مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)،فكيف تعود إلى الذنوب وقد أعطاك الله تعالى فرصة لتكفرها، وتخرج من ذنوبك في كل ما مضى من عمرك السابق، فلماذا تلحق بنفسك دنس الذنوب بعد حجك، فلا تفتح للشيطان بابا ولا تجعل للهو شاغلا، ولا تشغل نفسك بالناس فهل ستحاسب عنهم؟ بل لهم رب يحاسبهم. فإذا كان حسابهم على الله إذن فلماذا تتعامل بتعامل من عصا منهم.بل تعامل بإيمانك ونقاءك وصفاءك ونور يقينك، دع الكذاب ليوم حسابه فلا تكذب، دع الخائن ليوم حسابه فلا تخن، وليس في الدنيا في نظر المؤمن ما يدعو لمعصية،واستحي من الله الذي دعاك لبيته الحرام وسخر لك كل شيء حتى تأتيه، (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحِي مِنَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحَى مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاء)ِ (شعب الإيمان 10/ 169)، وأما عن الجانب الجسدي: فهذا الجسد الذي لبى وطاف وأدى المشاعر، وصلى في بيت الله الحرام ووقف على عرفات الله مناجيا مولاه، كيف له أن يلقي بنفسه في النار بعد ذلك، يقول حجة الإسلام الغزالي في (إحياء علوم الدين 4/ 35):(فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه وبطنه ويده ورجله وفرجه وسائر جوارحه ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها ثم ينظر فيها فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد كنظر إلى غير محرم وقعود في مسجد مع الجنابة ومس مصحف بغير وضوء واعتقاد بدعة وشرب خمر وسماع ملاه وغيره ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد، فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر، ويكفر القعود في المسجد جنباً بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة. وأما مظالم العباد ففيها أيضاً معصية وجناية على حق الله تعالى فإن الله تعالى نهى عن ظلم العباد أيضاً فما يتعلق منه بحق الله تعالى تداركه بالندم والتحسر وترك مثله في المستقبل والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها فيقابل إيذاءه الناس بالإحسان إليهم ويكفر غصب أموالهم بالتصدق بملكه الحلال ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة والقدح فيهم بالثناء على أهل الدين وإظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله). وخلاصة القولأنك أخي الحاج أعتق جسك من النار وأنعمه بحنتك مولاك التي عرضها كعرض المساء والأرض، فلا تمد إلى المعاصي يدا ولا رجلا ولا عينا ولا أذنا ولا فرجا ولا طعما ولا شرابا، نق نفسك مما يعلق بجسدك من معاصي وذنوب كبيرها وصغيرها، وأخيرا وليس أخرا هذا تذكير لنفسي وأخواني المسلمين للنقاء من عوالق الدنيا وملذاتها التي يتنج عنها الذنوب والمعاصي.