د. جمال عبد العزيز أحمد:
يعيش المسلمون هذه الأيام، ومنذ دخول شهر شوال، وذي القعدة، وحلول شهر ذي الحجة، يعيشون أعظم فرائض الإسلام، وأعلاها منزلةً، وهي شعيرة الحج المباركة، والتي فيها كلُّ فرائض الإسلام من: شهادة، وصلاة، وزكاة، ويشهدون كل أعمال الحج التي تدفع إلى النهوض بالنفس، والارتقاء بالذات، والسمو بالروح، واكتساب العزيمة، واستنهاض الهمة، فهي عبادة روحية،ومادية،وتزكي النفس، وتعيد صاحبها مغفورًا له، أبيض الصحائف، كيومَ ولدته أمه، حيث يبدأ حياته بعد الحج نظيفَ الصحائف، عفيفَ الخُطى، كريمًا على ربه، وعلى خلقه، فالحج فرصة كبيرة للعودة إلى الفطرة السليمة، والطبيعة الكريمة.
ونقف هنا أمام بعض آيات الحج، نحاول قراءتها تربويًّا، وبلاغيًّا، وندور حول معطياتها القرآنية، ونحوم حول رياضها، ونعتبق بعضا من شذاها، ونشم شيئا من عطرها، ونمشي قليلا في بساتينها، وحدائقها، ورياضها، يقول الله تعالى:(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة ـ 197).
بدأت الآية بجملة اسمية هي:(الحج أشهر معلومات)؛ وذلك لأن هذا الحكم من أحكام الحج ثابتٌ، ومستمرٌّ، ومقرَّرٌ شرعا، ولا يستطيع أحد تغييره، ولا تبديل أشهره، واستعمل القرآن الكريم صيغة جمع التكسير للقلة:(أشهر) بوزن (أَفْعُل) بضم العين، مثل:(أنهُر جمع نَهر، وأبحُر جمع بحر، وأعين جمع عين، وأنفُس جمع نفس، وأوجُه جمع وجه، وأظب جمع ظبي)، ومعروف أن جموع القلة هي التي تبدأ من ثلاثة إلى عشرة،ولها أوزان قليلة، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وهي:(أفعُل، وأفعال، وأفعِلة، وفِعْلة)، مثل:(أشهر، وأيام، وأجهزة، وصِبْية)، وأما ما فوق العشرة إلى ما لانهاية من الأعداد، فتسمى جموع الكثرة، وأوزانها تربو على الثلاثين وزنا، وتدخل فيها صيغُ منتهى الجموع على كثرتها، ولما كانت الأشهر ثلاثة، هي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة، أي أقل من العشرة فلذلك جاءت على وزن (أفعل)، مثل:(والبحر يمده من بعده سبعة أبحر..)، والقاعدة عند العرب أنهم:(إذا ضمُّوا بعضَ الثالث:(وهو ذو الحجة) إلى الاثنين:(وهما شوال وذو القعدة) أطلقوا عليها اسم الجمع، وتأخذ أحكام الجموع(، وقوله:(معلومات) صفة لـ(أشهر)، حيث يجوز في صفة ما لا يعقل أن تعامل معاملة المفرد، وأن تعامل معاملة الجمع، إنْ كان موصوفُها مجموعًا، نحو قوله تعالى:(كأنّهم أعجازُ نخلٍ منقعر)، وقوله:(والنخل باسقات..)، وقوله:(أيامًامعدودات)، وقوله: (أيامًا معدودة)، فيجوز في صفة ما لا يعقل المطابقة لما قبلها، تبعًا لقاعدة الصفة، وعدم المطابقة، فاستعمال الجمل الاسمية (الحج أشهر معلومات) مفيدٌ لثبات الدلالة، وثبوت، وأزلية الحكم الفقهي، وفيه تربية للمسلم في أن أحكام الله ثابتة، ولا يجوز لمسلم تغييرُأيِّ أمر فيها، أو تبديلُ شيء منها، فقدنعى الله على العرب تأجيل تلك الأشهر التي حَرَّم الله فيها القتالَ، وجعلها سلامًا كاملًا، ولكنَّبعض العرب، أو بعض قريش كانوا يؤجلونها إلى غيرها من الأشهر، ويحاربون فيها، وينسؤونها، أي: يؤخرونها بعد تحديد الله لها، بمحض مزاجهم، فوصف الله ذلك الصنيع الآثم بأنه زيادة في الكفر، ودليل على ضلال الكفار، حيث يحلونه عامًا، ويحرمونه عامًا، حتى يواطئوا العدة، ويجعلوا تلك الأشهر كالبديل، ويضعونها مكان الأشهر الحرم، فقالتعالى:(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُعَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (التوبة ـ 37).
فاستعمال الجملة الاسمية يضع المسلم أمام حقيقة مقررة، ثابتة لا انفكاكَ عنها، ولا هروبَ منها، فحكم الله ماضٍ إلى يوم الدين من غير تبديل، ثم فرَّع الحكم، وقال:(فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، أيْ: من كتب على ذاته، وأوجب على نفسه الحجَّ، وأحرم بالفعل حَرُمَ عليه ثلاثةُ أمور: الرفث، والفسوق، والجدال ما دام في أشهر الحج، والرفث هو الجِماع، ومقدماته المُوصِلة إليه، ولما كان الحج فرصةً لتقوية العزيمة، واستنهاض قدرة الإنسان في التحمل كان هذا الأمر ممنوعًا في أيام الحج؛ ليكون فيما يستجدُّ من أحداثٍ قد يتعرض لها الإنسان تحول بينه وبين فعلها، فيتذكر أيام الحج، ويتصبر، ويتجمل، ويتحمل، وحتى يفرغَ الحاجُّ إلى عبادة ربه، ولا يكونَ في رأسه شيءٌ من ذلك، ولا وقت هنا للدلال، والجلوس بين يَدَيِ المرأة، والمرأة كذلك تتدرب على التحمل، والصبر، وتتكون لديها العزيمةُ، والجد، وتساعد زوجها في الاحتمال والمثابرة والصبر، حتى تمر أيام الحج دون ارتكاب ما يفسده، فليس لواحد منهما أن يفعلَ ما يدعو الآخر إلى عدم الصبر، وطلب الرفث.
والفسوق هو كل معصية بجميع ألوانها، وهي كثيرة، متنوعة من: الظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، والتعدي على الحرمات، والاغتياب، وارتكاب النميمة، والظن السيء، والسخرية من الآخرين، والهمز، واللمز، ونحوه مما أثمَّه الشرع في الحج، وغير أوقات الحج، فإذا كان في الأصل محرمًا، فهو أشدُّ تحريمًا في زمان الحج الذي لا وقت فيه للمسلم الصادق في ارتكاب أيِّ معصية، ولا حماقةٍ من هاتيك الحماقات التي تؤذي حجاج بيت الله الحرام، وتجعل الحج غير مقبول، وفي حكم المنعدم، وأما الجدال، فهو الخصام، والمماراة، وإضاعة الوقت في النقاش غير الهادف، وصاحبه يعلم أنه لا حَقَّ معه، وأنه يقتل الوقتَ بجداله، وخصامه، فهذا كله لا يجوز في زمن الحج، وفي الحجِّ حفظ الأوقات، واستعمال (لا) النافية للجنس ثلاث مرات:(لا رفثَ، ولا فسوقَ، ولا جدالَ في الحج) يؤكد ذلك، ويقوِّيه، فهي تنفي جنس ارتكاب كل ذلك إذا فرض الإنسان على نفسه الحج، فليس له مطلقا ارتكابُ شيءٍ مَعِيبٍ من الفسوق، والجدال، ولا الرفث الذي هو حلال في غير أشهر الحج، بل فرض على المرء إشباع حاجته الفطرية، وإعفاف زوجه، بتلبية الفطرة السليمة كذلك عندها في هذا الأمر، ولكنه وقت الحج محرم حتى ينتهي، وهو جانبٌ تربويٌّ، فهو فضلا عن أنه تربية المسلم على العزيمة، والصبر، والتحمل، هو في الوقت نفسه طريقٌ إلى اجتناب تلك المآثم، وهذه المعاصي، والتعالي عليها، وعلى ارتكابها، وخصوصا في أوقات لا تسمح بضياع الوقت في المشاحنات، والإحن، والخصام، وارتفاع الصوت، وانتصار المرء على أخيه، وتحقيق شهوة الفوز، وأخذ ما ليس له، وبالطبع فإن الجدال بالحسنى، وتبصير الناس هو أمرٌ مشروع، ولكن المحرم هو الجدال غير النافع، الذي يفضي إلى المشاحنات، والخصام، وإثبات الذات بغير حق، وإهدار وقت الحجيج فيما لا يفيد، ولا ينفع، وأتي ختام الآية داعيا إلى التزود من كل خير وعمل صالح، وأن خير الزاد التقوى، فلا بد من تقوى الله، فهي خير معين على الحياة، وخير زاد لكل مسلم، وهي معيار كرم المسلم عند ربله، وبه يتفاضل العباد:(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وهي وصية الله للعالمين، وهي مقصد كل عبادة من عبادات الإسلام، وهدف كل طاعة، وفعل الأمر:(تزودوا) جاء للنصح والإرشاد، وتَرَكَ القرآن الكريمُ المتزوَّدَ منه مفتوحًا، وغير محدَّدٍ؛ لتذهب النفس فيه ، وفي تصوره كلَّ مذهب، وتنتشر ساعيةً في كل مكان لعمل الخير، وخير العمل، وجمع الفعل: (تزودوا) يدل على أن العمل الجماعيَّ مهمٌّ، وضروري في شحذ همم الناس، وخصوصا الكسالى منهم، وأن يَدَ الله مع الجماعة، وهو شعار ديننا في كل عمل، مثل قولهتعالى:(إياك نعيد وإياك نستعين)، وقوله:(رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات)، وقول رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم):(اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه)، وهكذا تجد الاجتماع، والاتحاد هو شعار كلِّ شيء في الإسلام، ومنه الطاعة في زمن الحج، وأن ترى الحجاج كلٌّمنهم في طاعة: هذا يتلو، وهذا يدعو، وهذا يطوف، وهذا يسعى، وهذا يذكر الله، وهذا يساعد كبير السن، وهذا يصلِّي، وهذا ينصح، وهناك درسٌ يجمع الناس على فريضة الوحدة وآثارها، وندوة هناك تبيِّن عظمة الإسلام في شعيرة الحج، وهنالك مقالات تبيِّن جمال الإسلام في توحيد الملبس، والتلبية، وسائر أعمال الحج، وهكذا يكون التزود بكل ألوان التقوى، وجميع صورها.
وتأتي الفاء التفريعية في بداية قوله:(فإنّ خير الزاد التقوى)لتبين أن شرطًا حُذِفَ، وهذه الفاء تقع في جوابه، وهي هنا جملة اسمية، ومؤكدة بـ(إِنَّ) لبيان استمرار الحكم، وأزلية القضية، وسرمدية فضيلة التقوى، و(خير) أفعل تفضيل، أي: لا خير من هذا الزاد، وهو التقوى، فهو فوق كل زاد، فقد دخل الجملةَ أكثرُ من مؤكد؛ لتوضيح أهمية التقوى، ودورها في سعادة المسلم، وأثرها في حياة الفرد خاصة، والمجتمع عامة، ثم يأتي عطف الجمل التي ورد فيها هذا الحكم العام الذي يدفع المسلم بعامة، والحاج بخاصة إلى فعل جميع الخيور المتخيلة، وهو قوله تعالى:(وما تفعلوا من خير يعلمه الله)، و(ما) شرطية مبهمة، جازمة، تعني سعة الفعل، وتعدد ألوان الخير، كما أن دخول:(من) حرف الجر الصلة، أو الزائد يفيد طلاقة الخير، وكثرته ووفرته، ودخول كل ما يمكن تسميته خيرا تحته، فـ(مِنْ) تزاد إذا سبقها نفي، وتبعتْها نكرةٌ، فهما شرطان لزيادة حرف الجر الزائد، وليس المقصود بالزيادة هنا ما ليس له فائدة، وإنما دخلتْ لبيان عموم الخير، وشيوعه، وتعدده، أيْ ما تفعلوا من كل ألوان، وأنواع، وأصناف، وأطياف الخير يعلمْه الله، وفيه لونٌ من السباق، والتنافس في فعل الخير في تلك الأوقات الشديدة الحرارة، والتي يلازمها الزحامُ، وكلٌّ فيها يكون مشغولا بنفسه،وبأولاده، ولا وقتَ عند أحدٍ لأحد، هنا تأتي العظة في محلِّها، وتؤتي أكلَها، وتعيد المرءَ إلى فطرته، والنظر في خدمة إخوانه من الحجيج، وتظهر قيمة الأخلاق النبيلة من التعاون، والأخوة، والمساعدة،والرحمة، وتقديم كل ما يمكن تقديمه لراحة من معك، وتحمّلك عن الكبير، ورحمتك بالصغير، وبالمرأة، وعبَر القرآن بالفعل:(وما تفعلوا) فجاء بالفعل لا بالقول،لأن الوقت ليس وقت عظة باللسان فقط، بل مشاركة بالجَنان، واليد، والقلب، واللسان، كلُّه فعلٌ، لا مجرد قول، وجواب الشرط يريح القلب:(يعلمه الله) فقد حصر الفاعل وهو رب العزة (الله) لبيان أنَّ عِلْمَ ذلك، وإن كان في قلب المسلم فالله يعلمه، ويثيبه، ويقدره، ويضاعف لصاحبه الأجر، والفضل، وناهيك عن علم الله بما قدمت، وثوابه فيما فعلت:(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)، وقد يصل الثواب والأجر إلى سبعمائة ضعف، ولا حرج على فضل الله، وسعة رحمته، فالأمر كله بيده، وخزائنه ملأى، لا تنفد، ولا تنقضي، وفي مثل تلك الأوقات تتضاعف أجور الحجاج، ويزيد الفضل.
وفعل الأمر:(واتقوني) يفيد وجوب الفعل، والسعي لتحقيقه بأقصى عمل ممكن، وأصدق خطو، وأسرع سير، أَيِ الزموا تقوايَ، والخشية، وتقديم الخير كله لكل محتاج، وناداهم بأحبِّ الصفات، وأجل النداءات، والأسماء، وهي:(يا أولى الألباب) أيْ: يا أصحاب العقول المستنيرة، والقلوب الواعية، والنفوس الزكية، والأفئدة التقية، يامَنْ تعلمون عظمتي، وقدسيتي، وربوبيتي، وألوهيتي، وكامل هيمنتي على كل حيواتكم، الزموا طريق التقوى، فهو خيرُ نجاة، وأقومُ سبيل إلى جناني، ورحمتي، ومغفرتي، فناشد فيهم ألبابهم، وخاطب فيهم عقولهم، ووعيهم، وقد دخل الآيةَ جملةٌ من المؤكدات، منها مجيء الجمل اسميةً في معظمها، واستعمال (لا) النافية للجنس، وتكرار (لا)النافية للجنس، واستعمال حرف الجر الصلة، أو الزائد(من)، ومجيء(إنَّ) المؤكدة، ثم دخلها كذلك أفعال الأمر، والأمر من الأساليب الإنشائية، وكذلك أسلوب النداء، وهو من الأساليب الإنشائية كذلك، كما تخللتْها الأساليب الخبرية كثيرًا؛ لأنها تقرر حقائق، وتؤكد ثوابتَ، وتبين أحكاما ثابتة، لا تتغير، وعواقب طيبة، لا تتبدل، ومِنَنًا ومنحًا يتفضل الله بها على عباده، ويفيض بها على الحجيج، ودخلها كذلك أدواتُ الربط ، ومنها الفاء التفريعية، ومَنِ الشرطية، وواو العطف الذي هو عطف الجمل؛ لتمتين الترابط، وتشابك الدلالات، وتماسك النص.
* جامعة القاهرةـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
[email protected]