د. أحمد مصطفى أحمد
غالبا ما نجد في الأمثال الشعبية تناقضات تصل إلى حد الشيء وعكسه تماما. ويبدو ذلك أمرا طبيعيا، فتلك الأمثال تُمثِّل حكمة جماعات البشر في أوقات وظروف مختلفة من تجارب الحياة، والحياة كلها تناقضات. لكن هناك بعض الأمثال تكاد تكون من فرط تكرارها وإهمال ما هو مناقض لها وكأنها صحيحة تماما. من هذه الأمثال "كل تغيير فيه خير"، ومع أن التغيير في الأغلب أمر إيجابي، إلا أن بعض التغيير له من الأضرار ما لا يعد ولا يحصى. ففي السنوات الأخيرة لم يعد التغيير متسقا مع التطور الطبيعي لحياة البشر وتعقيدها، إنما أصبح استباقا لمحدثات جديدة ويستهدف تجاوز أبسط المعايير والأصول. ربما يكون التغيير من سنن الحياة، وضروريا لاستمرارها وتطورها، لكن حين يصبح وسيلة لانتهاك الأسس الأولية، فهو مشكلة حقيقية وقد يقود إلى التخلف وليس التطور.
هناك مثال واضح على ذلك مرتبط بصعود التيارات الشعبوية في الدول الغربية والتي لديها كره ونفور حاد تجاه القوانين والأعراف وحتى المبادئ والأصول. فالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أراد تغيير القوانين ليبقى في السلطة ويثبت كذبته بأن الانتخابات الرئاسية سرقت منه. وقبل ذلك قام بتغيير بعض القوانين لأغراض منها حتى ما هو شخصي. لكن ما يحدث في بريطانيا منذ عام 2019 أكثر فجاجة من فترة ترامب في الأراضي وغيره. فرئيس الحكومة بوريس جونسون وفريق وزرائه الرئيسيين لا يطيقون القواعد ولديهم ازدراء دفين للقوانين طالما لا تتفق مع أهوائهم. ورغم أن مناورة السياسيين والتفافهم على القواعد والقوانين أمر معروف في كل الدنيا، لكن في النهاية لذلك حدود. إنما مع فريق حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا لا يعرف الأمر حدودا. فوزيرة الداخلية مثلا تصر على سياسة ترى أنها تكسب لها أصوات الجناح المتطرف في الحزب الكاره للأجانب والمعادي لأوروبا. تلك هي إرسال اللاجئين الذين يأتون إلى بريطانيا بطرق غير شرعية إلى رواندا. ورغم أن كلفة تلك السياسة على دافع الضرائب قد تكون أعلى من فحص حالات هؤلاء اللاجئين في بريطانيا، إلا أنها تحاجج بأن ذلك غير صحيح. هذه الوزيرة طردت من حكومة رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي لكذبها على الحكومة وتضليل البرلمان بشأن رشوة تلقتها من إسرائيل. لكنها الآن من أهم أربعة حول بوريس جونسون الذي دعمها أكثر من مرة بعد مخالفتها لقواعد السلوك الوزاري وتماديها في التنمر على وزراء في الداخلية.
أما وزير المواصلات جرانت شابس، وهو ربيب لبوريس جونسون، سبق واحتال على البرلمان مخفيا عملا آخر له يجني منه الملايين وهو نائب عن الشعب في انتهاك للقانون وقواعد السلوك البرلماني. الآن، رفض شابس أن تتفاوض شركات المواصلات مع العاملين فيها بشأن تسويات أجورهم ما دفع العاملين للإضراب. فماذا يقترح الوزير؟ تعديل القوانين بما لا يسمح للعاملين بالمطالبة بحقوقهم ويسهل على إدارات الشركات والأعمال فصل العاملين تعسفيا. هناك أيضا وزيرة الخارجية، وأبرز المرشحين لخلافة بوريس جونسون في زعامة حزب المحافظين الحاكم، ليز ترس. تدفع الوزيرة بقوة باتجاه "تمزيق" بروتوكول أيرلندا الشمالية ضمن اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست). ذلك رغم أنها تخاطر بانتهاك القانون الدولي بالنكوص عن اتفاقية دولية وقعها رئيسها جونسون مع المفوضية الأوروبية نهاية 2019.
تلك مجرد نماذج من فريق جونسون، يقومون بتغيير القوانين والقواعد لتفادي المحاسبة وتحمل المسؤولية. أما جونسون نفسه، فبعد فضائح حفلات الإغلاق في مقر الحكومة وغيرها من انتهاكات وزراء ومسؤولين من فريقه الحاكم لمدونة السلوك الوزاري قام بتغيير قانون المدونة بحيث يعفى المسؤول من العقاب على الانتهاك ولا يضطر للاستقالة من منصبه. وقبل ذلك، في نوفمبر الماضي حاول تغيير قانون لجنة القِيَم في البرلمان؛ كي لا يحاسب نائب من حزبه على انتهاكه للقواعد بممارسة عمل ثانٍ لصالح حكومة أجنبية في صراع قانوني مع الحكومة البريطانية. لكن أمام حملة عاتية اضطر للتراجع وسحب مشروع تعديل القانون الذي كان سيعني إلغاء لجنة القِيَم تماما. طبعا، يضاف إلى ذلك كم التغييرات في القوانين التي تقوم بها حكومة جونسون على مدى عامين وإن كان أغلبها له علاقة بالبريكست، بمعنى تعديل القوانين التي كانت متسقة مع القوانين الأوروبية بحجة "استعادة السيادة" التي يرفعها مؤيدو بريكست. لكن الحقيقة أن الأضرار من وراء تلك التغييرات لا حصر لها. على سبيل المثال، سيسمح تعديل القوانين المتعلقة بالزراعة بزرع منتجات لا تخضع لمعايير الأمن الصحي والسلامة الغذائية.
ولأن تغيير القوانين كلما واجهت الحكومة مشكلة أو انتهك أعضاؤها القواعد لم يعد قاصرا على القوانين البريطانية، بل بتجاوزها للقانون الدولي، كما في حالة أيرلندا الشمالية ومشروع وزيرة الداخلية لتعديل القانون بما يعد انتهاكا لميثاق حقوق الإنسان الأوروبي الذي تلتزم به بريطانيا قانونا، فالتبعات تبدو كارثية. فبريطانيا التي تعرف تقليديا بأنها بلد القانون والأصول تتشوه سمعتها بهذه التغييرات. وليست المسألة مجرد سمعة وصورة أخلاقية، بل إن أغلب رجال الأعمال والمسؤولين في العالم كانوا يلجؤون إلى بريطانيا للتقاضي والتحكيم مع ما يوفره ذلك من فرص وعائدات لشركات بريطانية. كل ذلك مهدد في ظل هذا "التغيير" المستمر والذي يضر أكثر مما ينفع.