د. رجب بن علي العويسي
يأتي توجُّه سلطنة عُمان نحو تطبيق اللامركزية في المحافظات تحوُّلا استراتيجيًّا نحو الإدارة المحلية وتمكين المحافظات من إنتاج الفرص التنموية والاعتماد على الذات، وتفعيل المشاركة المجتمعية في التنمية الوطنية الشاملة، تحقيقا لأولويات رؤية عُمان 2040، وبدوره شكَّل المرسوم السلطاني رقم (36/2022) بإصدار نظام المحافظات تحوُّلا نوعيا في مسيرة العمل الوطني، ونقطة مهمة للبدء بتطوير إداري يتجه نحو النوعية، ويراعي مبدأ اللامركزية في تقسيمات العمل الإداري، بما يتوافق مع أولويات الرؤية، وبشكل يراعى المستجدات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية وكيفية دمجها وتكاملها من خلال متطلباتها ومستلزماتها البشرية والمادية والمالية والإمكانات اللازمة للقيادات الإدارية المطلوبة لتنفيذ هذا التوجُّه، وإعطاء مجالا أوسع لمفهوم المحافظات كوحدة تنموية أساسية قائمة بذاتها فيما يتعلق بتنظيم شؤونها الداخلية، وإدارة مواردها، وإعادة تصحيح أوضاعها، وتقوية فرص المشاركة الواعية للمؤسسات والمواطنين في التعامل مع القضايا الاستراتيجية التي تتعامل معها، في تجسيد عملي لنموذج اللامركزية، تمهيدا لحوكمة هذا القطاع في مراحل قادمة، بعد أن يشتد عوده وتبرز نتائجه الملموسة على أرض الواقع، في ظل جملة الصلاحيات والممكنات والفرص التي منحها المرسوم للمحافظات في إدارة مواردها، وتناغما مع التوجُّهات العالمية نحو تطبيق الإدارة المحلية من خلال جملة الممكنات الاقتصادية والإدارية التي تعمل المحافظات على تحقيقها في إطار الرؤية، إذ من المتوقع أن يسهم هذا التوجُّه الحكومي في توسيع قاعدة الشراكة، وتأصيل ثقافة العمل الجمعي مع المواطن وفق أطر واضحة واستراتيجيات دقيقة ومنهجيات عمل محكمة.
ومع ما يمكن أن تقدمه اللامركزية المصحوبة بالمحاسبية والمساءلة من فرص كبيرة على مستوى جودة الأداء وانسيابية العمل وسرعة اتخاذ القرار من موقع التنفيذ، وإيجاد مزيد من التناغم بين الجهات الحكومية والخاصة في المحافظات وفق منظومة متكاملة تقرأ الفرص والتحوُّلات المطلوبة وتراعي الظروف والمتغيرات وتستفيد من المبادرات والتوجُّهات الفردية الممارسة، وأفضل النماذج العملية داخل المحافظات، لتشكل محطة للعمل الجاد والأداء المخلص والإنتاجية الفعالة، ناهيك عما تتيحه من فرص المتابعة المستديمة والجادة للمشاريع وآليات التنفيذ المرحلية لها، وما أشرنا إليه في مقالات سابقة نشرت بهذه الجريدة الغرَّاء (الوطن) حول الطموحات والمتطلبات لتحقيق هذا التحوُّل، سواء على مستوى حوكمة الأداء بالمحافظات والتي تأخذ شقين رئيسين؛ يقوم الأول على إعداد المواطن عامة والقائمين على هذه المحافظات من محافظين وولاة ومساعديهم وغيرهم، إعدادا علميا وتدريبيا ومهنيا وشخصيا يضمن إدراكهم لضرورات المركزية وآليات تطبيقها، والتغيرات التي يجب أن تطرأ على ثقافة المسؤول الحكومي في سبيل نقل هذه اللامركزية من التنظير والظواهر الصوتية الإعلامية إلى التطبيق العملي والتنفيذ السليم الذي يحقق العدالة ويراعي تكافؤ الفرص ويقف مع هموم المواطن وهواجسه، كما يعمل على تحقيق طموحاته وتلبية متطلباته ووضع أولوياته محل الاهتمام، بما ينعكس على آليات العمل، وأساليب التعامل، وفلسفة الإدارة، وعمليات التنظيم، واستغلال الفرص وإدارة الظروف، وما يرتبط بها من إعادة إنتاج الذات، وتصحيح الممارسات، وهندسة المبادئ والقِيَم والأخلاق لتعكس تصرفات المسؤول الحكومي وتعبِّر عنه، بالإضافة إلى الحاجة إلى التشريعات والقوانين والضوابط والأنظمة والإجراءات التنفيذية التي تعمل على مساندة المحافظات في تحقيق أهدافها، كما تسهل عمليات الاتصال والتواصل مع المواطن، تقرّب ولا تبعّد، تُنتج ولا تستهلك، تُبادر ولا تنتظر، تُحفّز ولا تُثبّط، ومعنى ذلك أن هذه التشريعات يجب أن تمارس دور القوة المعززة لتطبيق اللامركزية، وتؤسس للمزيد من الأريحية للمواطن في مشاركته في هذا الواجب الوطني، والحدِّ من عقدة الإجراءات وسلسلة التعقيدات التي باتت ترهق المواطن اقتصاديا واجتماعيا وتقلل من مشاركته ومبادرته في تحقيق أحلام المحافظات، أو أن يجعل منها المسؤول الحكومي شمّاعة له في استئثاره بالقرار، وفردانية الرأي، وسلطوية الإدارة، وفرض سلطة الأمر الواقع من موقعه.
إن مسألة توطين اللامركزية في المحافظات أمر جديد في عمل المحافظاتـ كما أشار لذلك جلالة السلطان المعظم في لقائه بالمواطنين، وهو وسيلة للارتقاء بجودة الخدمات التي تقدم للمواطن، وهو دور يتسق مع أبجديات رؤية "عُمان 2040"، وما حملته من طموحات متعاظمة في محور الإنسان والمجتمع خصوصا، وتكريس التحوُّل في البناء الفكري، وتغيير العادات والسلوكيات بما يتوافق مع أولويات العمل الوطني، وجاهزية قطاع الخدمات في المساهمة الفاعلة في نقل المحافظات من حالة الاستهلاكية وانتظار الأوامر التنفيذية للمشاريع إلى تمكينها من إنتاج واقعها وإبراز معالها والتسويق لمنجزه، وإيجاد الحياة في مواردها، وتوظيف ذلك وفق أسس علمية وإدارية واقتصادية مشهودة، تحقق أولويات المواطن في ظل التحدِّيات المرتبطة بارتفاع الأسعار وتحدِّيات الأمن الاجتماعي وترقية العمل الاجتماعي الإنساني والتطوعي متخذا من القِيَم العُمانية والهُوية وأخلاق الإنسان العُماني محطة لبناء مجتمع القوة، بما يعنيه ذلك من وضوح السياسات وكفاءة البرامج وواقعيتها ورصانة الأدوات ومصداقيتها، ووضع معايير الجودة والمتابعة والرقابة على الأداء، ولا شك أن المواطن ينتظر بشغف هذا التوجُّه ويقرأ فيه مرحلة جديدة في العمل الجادِّ والمخلص الذي يستوعب المواطن بكل تفاصيله ويتقاسم معه مسؤولية البناء مستفيدا من كل الفرص والمهارات والقوة لديه، وهو أمر يستدعي اليوم استيعاب مفهوم اللامركزية والإدارة المحلية وآليات عملها من المواطن حقوقه وواجباته ومسؤولياته، وما له وما عليه، وكذلك من القائمين على المحافظات الذين يتحملون مسؤولية وطنية وأخلاقية وأمانة تاريخية عظمى كلفهم بها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، وأكد في أكثر من موضع في أثناء لقائه بمشايخ المحافظات على أن يكونوا أهلا للثقة، وعنوانا للمسؤولية، وتنفيذا للمهمة، وأداء للواجب، بما ينعكس على قدراتهم واستعداداتهم والتزامهم ليقوموا بدورهم في تطبيق اللامركزية وتفعيل المشاركة المجتمعية الواعدة ورسم استحقاقاتها في بناء نموذج وطني رائد يصنع الإلهام ويحقق الإنجاز، ويضمن أن صوت المواطن يجد احتواء واعترافا وآذانا مصغية له، كما يتم تنفيذ ما يحمله من قضايا وهواجس وأولويات وفرص بكل إتقان.
وبالتالي يصبح الوعي بمضامين اللامركزية والفهم الدقيق لمقتضياتها وتبنيها كنَهج أصيل وسلوك قويم ينعكس على الممارسة المؤسسية داخل المحافظات وعملية التكامل والانسجام وتبسيط الإجراءات وتقليل الازدواجية في العمل، وخفض درجة القلق لدى المواطن في تخليص معاملاته البلدية والإسكانية والخدماتية وغيرها على مستوى المحافظات، رهن بمدى القناعة والحرص من قبل المعنيين (المحافظين والولاة ومساعديهم وغيرهم من العاملين في مكتب إدارة المحافظات)، بحيث تشكل تلك الإجراءات والبنى التنظيمية منطلقا لممارسة أفضل وحوار أدوم يُؤخذ فيه برأي المواطن، ويُفتح فيه المجال للدراسة والمراجعة والتقييم والمعالجة الموضوعية والنقد البناء وتبنِّي وجهات النظر الأخرى، فإن مردوديته ستكون أفضل وتأثيره سيكون ملموسا، وأن توظف بالشكل الصحيح الذي يحقق الغرض منه، وينعكس أثره على المواطن في استشعار وجود تحوُّل تعيشه المحافظات ينعكس على تفاصيل الحياة اليومية.
من هنا نتوقع بأن وجود الفراغ في هذا الجانب خصوصا فيما يتعلق بالبُعد الاجتماعي البشري وقدرة الموارد البشرية العاملة في هذا القطاع في مختلف المستويات التنظيمية والإدارية على استيعاب رؤية تطبيق اللامركزية بكل مهنية واحترافية، وتنازلها عن حالة الأثرة وأنانية التفكير، خصوصا مع عدم وضوح مسار المحاسبية واعتماده على مسألة التقدير الشخصي بدون ضوابط أو محددات مقننة، التحدي الأكبر الذي يواجه هذه المنظومة ويتطلب المزيد من الجهد الاستثنائي من الحكومة في اختيار وانتقاء القائمين على إدارة المحافظات من محافظين وولاة ونوابهم والكادر الفني والإداري المساعد، كما يستدعي التوسع في مساحة المتابعة والرقابة على أداء المحافظات، وهي رقابة يجب أن تؤسس عبر منظومة نزاهة عالية الدقة، عملية التأثير، قادرة على إنتاج الفرص وضبط مسار أي انحراف قد يحصل في استغلال الوظيفة العامة أو في تحديد المشاريع والفرص بما يضمن توجيه اللامركزية لصالح تحقيق التحوُّل المنشود، ويحافظ على مساحة القناعة لدى المواطن بقيمة هذا المدخل في إحداث التغيير القادم الذي يظهر في أداء المحافظين والولاة وطريقتهم في فهم مسار اللامركزية وإدارتهم لمتطلبات الواقع، وقدرتهم على إحداث تحوُّل يظهر على الأرض ويقلل من حالة البيروقراطية والمحسوبيات وغيرها التي باتت تشكل مشهد المحافظات حتى عهد قريب، فإن التأكيد على تحقيق التوازن في تطبيق اللامركزية مع الحاجة إلى الرقابة والمتابعة والضبطية وتدّخل الحكومة ممثلة في الجهات الرقابية من خارج المحافظات، الطريق الأنسب الذي يضمن الوصول إلى مشتركات واضحة في العمل ويجنِّب المحافظات أي انحرافات عن المسار، الأمر الذي قد لا يخدم التنمية الوطنية، فمع التأكيد على اللامركزية في التنفيذ إلا أن حوكمة المال العام وآليات الصرف وضبط مدخلاته، وتقنين مفهوم الاستثمار، وطريقة إرساء المناقصات والعقود مع الشركات المنفذة للمشاريع ثم القرارات الداخلية ومستوى العدالة والكفاءة والاستراتيجية التي تحققها وقدرتها على تجسيد مفهوم اللامركزية، محطات يجب أن تقف عليها الجهات الرقابية لما يترتب عليها من مشوهات للتوجُّه على المدى البعيد.
أخيرا، يبقى تحقيق ما سبق ذكره في تقديرنا الشخصي مرهونا بوجود نظام فعَّال للمتابعة والرقابة على الأداء، كجزء من عملية المراجعة لنظام العمل بالمحافظات، ذلك أن ترقية مسار الرقابة والمتابعة المنهجية على أداء المحافظات مطلب يفرض نفسه اليوم في ظل تسارع وتشعب حجم العمل وتعقد المهام والاختصاصات في المحافظات، ووجود تحديات ذات صلة بجوانب تنظيمية وتشريعية، فضلا عن انعكاسات بعض الممارسات غير المسؤولة على واقع عمل المحافظات، بما يوفره من مناخ عمل داعم لقيام اللامركزية التي تعتمد مبدأ التشخيص الفعلي أساسا لعملها، الأمر الذي سيترتب عليه توفير مجموعة من الأدوات والمعايير والمؤشرات قابلة للقياس والرصد؛ بالإضافة إلى تأصيل نظام محاسبية كفؤ وفاعل ونزيه، ذلك أن النتيجة المنطقية لتطبيق اللامركزية في المحافظات هي تطوير نظام للمحاسبية أكثر شمولا واتساعا وفاعلية، وفيما تتجه الحكومة نحو منح المحافظات صلاحيات أكبر في إدارة شؤونها، فإنها ستظل تحتفظ بمسؤولية تطوير الرؤى والسياسات العامة لتنمية المحافظات ورصد أولوياتها التنموية، وعليه فإنه على الجهات الرقابية وجهات المتابعة أن تمتلك من الوسائل والأدوات التي تمكنها من التأكد من أن الموارد المالية التي تقوم بتخصيصها في برنامج تنمية المحافظات يتم صرفها حسب ما هو محدد لها، وأن البرامج والمشاريع التي يتم إعدادها في المحافظات تعكس طموح المواطن وتتناسب مع مفهوم التمكين، وتحقق الأهداف المرجوة منها.