شكَّل المسار الرقابي في أجندة المستقبل لنهضة عُمان المتجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ ضرورة وطنية وخيارا استراتيجيا، حيث جاء في خطاب جلالته في الثالث والعشرين من فبراير 2020: “.. فإننا عازمون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قِيَمه ومبادئه وتبنِّي أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة؛ لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع متطلبات رؤيتنا وأهدافها”، وجاءت خطابات جلالته ـ أعزَّه الله ـ بعدها شارحة ومفصلة ومؤكدة وواضعة النقاط على الحروف في تأسيس منظومة رقابية فاعلة قادرة على المحافظة على المكاسب الوطنية المتحققة من إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وواضعة منهج الأداء الكفؤ والنزاهة طريقها لرسم خطوط اتصال مع الإرث الحضاري العُماني والقِيَم والأخلاق التي انتصرت لها الشخصية العُمانية، ومع كل خطاب أو لقاء أو توجيه أو أمر سامٍ تأتي مفاهيم الرقابة والمتابعة والمساءلة والمحاسبية وقياس الأداء محكَّات للقياس وأدوات متكاملة تضع عُمان في مسار آمن.
وانطلاقا من القناعة الوطنية بأن نجاح أي منظومة أداء وطنية بحاجة إلى مسارات رقابية تعصمها من الخطأ، وتصونها من الانحراف، وتضمن توجيهها نحو تحقيق الأولويات الوطنية، لتمارس المنظومة الرقابية أدوارا متعددة أساسها التقييم والمتابعة والرقابة على الأداء مرورا بجملة من الموجهات التي تستهدف إنتاج الفرص والتثمير في الموارد وصناعة الرأسمال البشري الاجتماعي والمحافظة على استدامة فرص النمو، وانتهاج أطر وطنية سمتها الابتكار والتجديد، لذلك كانت كل مؤشرات العمل الوطني التي تحققت في السنوات الماضية بدءا من إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة والمراسيم السُّلطانية التي حددت معالم التحوُّل الوطني في مختلف المجالات، تؤكد على الدور المحوري الذي تحققه منظومة الرقابة والنزاهة في مسيرة البناء والتطوير، لتصبح محطة للتأمل، وتقييم للمنجز، وفرصة لإعادة صياغة الممارسة، ومنطلقا لتقديم الأفضل في الممارسات والصدق في التوجُّهات، ونقطة استراحة والتقاط الأنفاس لمواصلة رحلة البناء، والانطلاق بعُمان نحو الهدف المنشود.
وأفرد النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السُّلطاني (6/2020) فصلا كاملا منه تحت عنوان “المتابعة والرقابة على الأداء الحكومي” حيث جاء في الفصل السادس منه المادتان (65 و66)، إذ نصت المادة (٦٥) على: “تنشأ لجنة تتبع السُّلطان، تختص بمتابعة وتقييم أداء الوزراء ومن في حكمهم، ووكلاء الوزارات ومن في حكمهم، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارات الهيئات والمؤسسات العامة وغيرها من وحدات الجهاز الإداري للدولة، ورؤسائها أو رؤسائها التنفيذيين، ويصدر بتشكيلها ونظام عملها وتحديد اختصاصاتها الأخرى أمر سلطاني؛ ونصَّت المادة (٦٦) على” ينشأ جهاز يسمى “جهاز الرقابة المالية والإدارية” يتبع السُّلطان، يختص بالمتابعة المالية والإدارية لوحدات الجهاز الإداري للدولة، وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة، وذلك على النحو الذي يبينه القانون. وعلى الجهاز إرسال نسخة من تقريره السنوي إلى كل من مجلس الوزراء ومجلس الدولة ومجلس الشورى”، وبالتالي ما يعنيه ذلك من أن مسألة الرقابة على الأداء الحكومي وتحقيق النزاهة رغم أنها فرضت نفسها بقوة على المشهد الوظيفي الوطني في ظل طبيعة المرحلة والتحديات التي تمر بها سلطنة عُمان، فإنها تعبِّر في ظل ورودها صراحة وضمنًا في دستور الدولة عن سلوك أصيل وإرادة وطنية تضع الرقابة والنزاهة في أولويات الأولويات مثلها مثل سيادة القضاء ونزاهته، لذلك يجب أن تكون حاضرة في منظومة بناء الدولة ولا يجوز التعامل معه كاستثناء ات أو حالة مزاجية وقتية.
ومع صدور المرسوم السُّلطاني رقم (35/2022) بإنشاء المجلس الأعلى للقضاء، في تحوُّل نوعي تشهده السلطة القضائية في توحيد مكوِّناتها ضمن نسق تنظيمي واحد، وتعزيز نزاهة القضاء واستقلاليته ومكانته، ودور القضاة في نطاق اختصاصاتهم وعدم إشغالهم بالجوانب الإدارية والروتينية والتنظيمية التي أوجد لها المرسوم نسقا تنظيميا آخر، وفي ظل اكتمال البنية التشريعية والمؤسسية للسلطة القضائية، تتجه الأنظار إلى تحوُّلات تطول المنظومة الرقابية في الدولة وتوحيد مؤسساتها وتوجيه قدراتها وإمكاناتها في رسم استحقاقات المرحلة، والإجابة عن التساؤلات التي يطرحها واقع بعض الانحرافات في الممارسة المؤسسية، بما يؤسس نحو إعادة هيكلة المنظومة الرقابية المالية والإدارية للدولة بكل تفاصيلها بشكل يتناغم والتطور الحاصل في منظومة العمل الوطني، وموجهات إعادة الهيكلة الجهاز الإداري للدولة والمعطيات الوطنية المتجهة إلى تعظيم دور الفرد والمؤسسة في صناعة منظومة اقتصادية قوية يعتمد فيها الفرد على نفسه، وتتبنى فيها المؤسسات استراتيجيات عمل واضحة المعالم، محددة الأطر، قائمة على تعزيز الابتكار والريادة، وخلق الحافز والإلهام والمنافسة، وتعميق أخلاقيات العمل وإعلاء قِيَمه ومبادئه وتبنِّي أحدث أساليبه، وتعزيز حضور اللامركزية والإدارة المحلية في مضامين وفلسفة العمل الوطني، ليمثل صدور نظام المحافظات رقم (35/2022) في ثوبه الجديد فاتحة أمل بقادم يضع منظومة الرقابة والمتابعة والنزاهة في استراتيجيات العمل الوطني، محطة جديدة منتظرة، تعلي من اكتمال البناء المؤسسي والتشريعي للسلطة التنفيذية، لتضع النقاط على الحروف واليد على الجرح، منظومة رقابية متكاملة ممكنة الاختصاصات والتأثير والفعل والتطوير لتشكل هاجس المواطن وشغفه وطموحه في ضمان المحافظة على مكتسبات رؤية “عُمان 2040” وإنتاج حلول مقنعة سوف يكون لوجوده أبعاد استراتيجية اقتصادية واجتماعية وأمنية وأخلاقية تنعكس بالإيجاب على منظومة العمل الوطني.
ذلك أن المحافظة على استحقاقات بناء المستقبل، وترسيخ معايير العمل المخلص والأداء الفعال، وبناء النماذج وإنتاج القدوات، بحاحة إلى ضمانات تشريعية وضبطية تحفظ لها سيرها في الإطار الصحيح، وتمنعها من أي انحراف قد يؤدي إلى تأخير الإنجاز، وعرقلة سير الخطط، أو بطء في القرار وازدواجية في العمل وتشتيت الجهود في ظل نزعة الذاتية وفردية التصرف وسلطوية التفكير، الأمر الذي تعمل خلاله منظومة الرقابة على تصحيح الواقع وصناعة الفرص المتجددة، فهي تأكيد على أن تنتهج سياسات العمل المؤسسي وثقافة أفراده نهجا معيارية تعتمد الابتكارية والتجديد والنوعية مدخلا لها، والوضوح والشفافية والنزاهة والدقة في اللوائح وأنظمة العمل وطرق التفاعل إحدى عملياتها، ويصبح الحديث عن مؤشرات الكفاءة والجودة وتحقق الإنتاجية أحد مخرجاتها الأساسية التي تعمل على تحقيقها ضمن منظومة وطنية تتكامل فيها الجهود وتتفاعل فيها عناصر الإنتاج، إذ من شأن هذا التناغم والتكامل الذي تؤسسه منظومة الرقابة، أن يشكل مدخلا للتكامل بين السياسات والخطط، والممارسات والبرامج، للوصول إلى فعل مؤسسي منجز يضع الجميع أمام مسؤولياتهم لتحقيقه والمشاركة في رسم صورته الفعلية في الواقع، ويطول أيضا القرار المؤسسي ذاته الذي يفترض أنه يعبِّر عن رغبة العاملين في المؤسسة، وهو ما يعني ضرورة تبنِّي ثقافة جلد الذات والاعتراف بالقصور في العمل وتأكيد الحاجة إلى الاعتماد على التخطيط والتقييم والتقويم كمعايير واضحة، لعمل مؤسسي مرتقب يحقق العدالة ويرفض منطق البيروقراطية وإثبات القوة والعظمة للذات، ومعنى ذلك أن تحقيق هذه المنظومة الرقابية بات اليوم سهل التحقيق أكثر من أي وقت مضى، خصوصا مع ما وفرته المراسيم السُّلطانية المتعلقة بالجهاز الإداري للدولة والسلطة القضائية والتنفيذية وصلاحيات مجلس عُمان، والعمل على إحداث مراجعة شاملة لكل الآليات والأساليب الرقابية والتقييمية، وإعادة إنتاجها وضبطها وتقنينها وفق محكات واضحة، وتوفير التشريعات والأنظمة التي تعطي لمنظومة الرقابة القوة والمرونة في التعامل مع كل الأحداث والمتغيرات ذات العلاقة.
من هنا، تأتي أهمية إنشاء مجلس أعلى للرقابة والنزاهة برئاسة جلالة السُّلطان يعمل على دمج كل مؤسسات الرقابة المالية والإدارية، واللجنة المشار إليها في النظام الأساسي للدولة والأجهزة المعنية بمتابعة المشروعات الحكومية، ضمن إطار هيكلي ومؤسسي واحد، ويقدم مراجعة شاملة لمنظومة الرقابة الحالية ومكوِّناتها، وإنتاج أدوات متكاملة في المتابعة والتشخيص والضبط والمحاسبية والمساءلة والنزاهة تتسم بالقوة والتمكين والصلاحيات والابتكارية وقوة النفاذ، ويتصدى بكل قوة وحزم عبر صلاحياته القانونية والتشريعية والضبطية والتمكينية لكل القضايا المتعلقة بالفساد الإداري، والاختلاسات للمال العام وقضايا المحسوبيات في التوظيف، والفاقد الحاصل في التشغيل، والرقابة على المشاريع وجودة الخدمات، والرقابة على الأداء الحكومي، ومتابعة قضايا الهدر والاستنزاف في الموارد الوطنية، والتعامل مع قضايا التوظيف والتشغيل؛ وابتكار أدوات وآليات رقابية تتيح له حق المساءلة المباشرة والضبطية القانونية والمتابعة المؤطرة والمقننة لأداء مؤسسات الجهاز الإداري للدولة والشركات الحكومية، وتستجيب لسرعة التحوُّلات القادمة والتوجُّهات الداعمة للأولويات الوطنية عبر إدارة كفؤة تأخذ بأسباب التطور والتقدم العالمي في هذا المجال، ويؤسس لمرحلة جديدة قوامها الشراكة والعمل المنظم، والأداء المقنن، وتفعيل خطوط التأثير، وفق مبادئ الكفاءة والإنتاجية ومعايير العدالة والإخلاص والمسؤولية، “تحقيقا للنزاهة التي لا بُدَّ وأن تسود كافة قطاعات العمل وأن تكون أساسًا ثابتًا راسخًا لكل ما نقوم به”.

د.رجب بن علي العويسي
[email protected]