«زغرب» مدينة جميلة تبعث في النفس الشعور بالارتياح، أحببتها ما أن وطئت قدماي أرضها، اللمسات الجمالية، التشجير الواسع في الشوارع والساحات ينشر الظل ويجلب الهواء المنعش، فالأشجار عملاقة ويزيد عمرها على المائتي سنة..

ثامنا: ليوبليانا – زغرب.
استغرقنا من روما إلى “ليوبليانا”، عاصمة “سلوفينيا”، حوالي ثماني ساعات بالسيارة، في طريق يصل طوله ٧٠٠ كيلومتر، وكان اللون الأخضر يفترش الأرض مزهوا بالجنائن التي تحفها أشجارها، وتطل علينا من بين أغصانها زهورها وأعشابها بأشكال وألوان وأنواع لا تحصى، والرفاق في السيارة يبدعون في وصف هذا الجمال بأبيات من الشعر العربي “اقنعوا من حياتكم بهوى الفنِّ * وسحر الطبيعة المعبود، واحلموا بالطيور في ظلل الأغ * صان بين التحليق والتغريد. اعشقوا الثلج في سفوح جبال ال * أرض والورد في سفوح التلال، وأصيخوا لصوت قمريّة الحقل * تغني في داجيات الليالي. جَمالُ الطَبيعَةِ في أُفقِها * تَجَلَّى عَلى عَرشِهِ وَاِستَوى، فَقُل لِلحَزينِ وَقُل لِلعَليلِ * وَقُل لِلمَولي هُناكَ الدَوا، وَقُل لِلأَديبِ اِبتَدِر ساحَها * إِذا ما البَيانُ عَلَيكَ اِلتَوى. الأرضُ قد لبِستْ رِداءً أخضَرا * والطلُّ ينثرُ في رباها جوهرا، هاجتْ فخِلتُ الزَّهرَ كافورًا بها * وحسِبتُ فيها التُّربَ مِسكًا أذفَرا، وكأنَّ سوسنها يصافحُ وردها * ثغرٌ يقبلُ منه خدًّا أحمرا، والنهرُ ما بينَ الرّياضِ تخالُه * سَيفًا تَعَلّقَ في نِجَادٍ أخضَرا. فالطبيعة الساحرة تبهج القلوب وتشرح النفوس، وتدعو إلى التأمل، وتعمق الإيمان، وتحفز الإنسان الفنان والكاتب على الإجادة والبراعة والإبداع لمن يملك ناصيتها. وصلنا فندق “الهوليدي إن” في حوالي الساعة السابعة مساء، وآوينا مباشرة إلى غرفنا، لنيل قسط من الراحة والنوم لساعات تكفينا لتجديد نشاط أجسادنا وتعدنا لبرنامج اليوم التالي الخاص باكتشاف عاصمة سلوفينيا “ليوبليانا”. جسر “التنين” الشهير، الذي يربط شطري مدينة “ليوبليانا” يعد واحدا من أهم اللوحات الجمالية على نهرها الوادع، ومزارًا استجماميًّا مُحبَّبًا يمضي فيه السياح أجمل الأوقات بمقاهي المدينة على ضفتيه اللتين تحتشدان بالمناظر الباعثة على البهجة والراحة، ويئن الجسر من حمل الأقفال الخفيفة والثقيلة، صغيرة الحجم وكبيرها، القديمة والجديدة، التي يشكِّل بعضها إرثًا وتاريخًا يرمز إلى الماضي البعيد، هذه الأقفال التي تزين جانبي الجسر تعبِّر عن العشق والحميمية والوفاء والارتباط العميق الممتد إلى الموت بين الزوجين والعاشقين، وهي ثقافة رمزية منتشرة في أوروبا تضفي شعورًا بالطمأنينة والتفاؤل. أخذنا جولة صباحية ترفيهية منعشة في النهر الذي يحيط بالمدينة، ويبرز معالمها السياحية وقصورها التي تعود لمراحل زمنية ومدارس وفنون عمرانية متعددة، وتشكِّل ثروة “ليوبليانا” الحقيقية ووجهها الحضاري التاريخي والحداثي. القلعة الأثرية المحكمة البناء بأسوارها الحجرية وأبراجها العالية وساحتها الفسيحة وإطلالتها من أعلى تلة على العاصمة، تشكِّل مَعلمًا آخر يلفت الانتباه ويشجع على زيارتها ومكابدة مشقة الصعود الطويل والسير على عشرات السلالم الموصل إليها، ومن موقعها الفريد التقطنا عشرات الصور التذكارية الجميلة، وفي القلعة معرض متخصص في تقديم التاريخ السلوفيني، ومعلومات قيِّمة عن أهمِّ التحوُّلات التي مرَّ بها. تقع ساحة ”Presreen في قلب “ليوبليانا”، وكل الطرق والأزقة والأسواق في المدينتين الحديثة والقديمة تمتد إليها، وهي محط أنظار السياح، وملتقى أهل سلوفينيا، ففيها تقام وتنظم الأنشطة الترفيهية والاجتماعية، وتعرض الأعمال الفنية، وتحتوي على عدد من النُّصب التذكارية، وتحيط بها المباني المتميزة بجمال هندسي فريد يعود إلى الطابع المعماري “السلو فيني”، وفي لحظة زيارتنا لها استمتعنا كثيرا بعرض عدد من السيارات والعربات والمعدات الكلاسيكية التي كانت تستخدم من قبل الأجهزة العسكرية والشرطة قديمًا. بحيرة “بليد” التي تبعد حوالي ٥٠ كيلومترًا عن العاصمة “ليوبليانا”، هي واحدة من المقاصد الطبيعية للكثير من سكان العاصمة والمدن والقرى القريبة منها، ويضعها السياح ضمن برنامجهم لزيارة المواقع الطبيعية، ولا شك بأن جولتنا المسائية مشيًا بالأقدام في محيط البحيرة، وارتشاف فناجين القهوة في أحد مقاهيها المطلَّة عليها كانت من المتع التي لا تضاهى. المسافة القريبة بين “ليوبليانا” و”زغرب” عاصمة كرواتيا التي لا تزيد عن ١٥٠ كيلومترًا، ويسر وتنوع وسائل النقل والخطوط التي تربط بين العواصم والمدن في القارة “العجوز” التي تبرع في تجديد شبابها واستعادة حيويتها والإضافة على تقدمها تطورات وتحوُّلات تعززه وتعمقه، شجعتنا على استثمار الفرصة لزيارة عاصمة أوروبية ظهرت إلى الخريطة السياسية كعاصمة لدولة كرواتيا، من رحم الحرب الأهلية بين “السلاف والكروات”، خلال الفترة من ١٩٩١ وحتى ١٩٩٥م. وفي صباح يوم الاثنين الموافق ١٦ مايو حجزنا في رحلة الساعة الثامنة و٤٥ دقيقة في القطار المتَّجه إلى زغرب، التي استغرقت حوالي الساعتين، وبمجرد أن يعبر المسافر الحدود السلوفينية، إلى الأراضي الكرواتية، يكون بذلك قد غادر منطقة “الشنجن”، ومع أن معظم الدول الأوروبية تعترف بالتأشيرة الموحدة، إلا أنه يصبح لزامًا فحص الجوازات والتأكد من مطابقتها لشروط الدخول إلى الدول الأخرى، وقد لفتت شرطة الحدود الكرواتية نظرنا إلى أن تأشيرة صديقنا ورفيقنا في الرحلة الأخ أحمد الصواعي محددة الدخول لمرَّة واحدة فقط إلى دول “الشنجن”، بسبب أن جوازه سوف تنتهي صلاحيته خلال سنة واحدة من إصدار التأشيرة، وبمغادرته “سلوفينيا” إلى كرواتيا، لن يكون بوسعه العودة، لذلك أضطر إلى حجز رحلة تعيده إلى “ليوبليانا”، وواصلنا نحن مسيرنا إلى “زغرب”، وهذه من منغصات السفر، فقد تأسفنا كثيرا على فراقه والفراغ الذي تركه. في مقصورة القطار، تعرفنا على شاب ألماني يسكن على الحدود الألمانية ـ البلجيكية، تخرج حديثا من الجامعة، واستثمر فترة بحثه عن عمل، وسهولة التنقل بين العواصم والمدن الأوروبية في التطواف والاكتشاف والسفر، فاستخرج تذكرة خط القطار الأوروبي لتحقيق هدفه بمبلغ وقدره ٣٠٠ يورو، ويبيت كلما تطلبت ظروفه في “بيوت الشباب”، بمبلغ متواضع جدًّا، لحظتها تذكرنا عشرات المشاريع العربية المشتركة التي طرحتها ونظرت لها وأعلنت عنها جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، ومنها مشروع القطار المشترك، وفي الوقت الذي تتحقق فيها تطلعات وخطط ومشاريع الأمم الطموحة والدول التي تمتلك الإرادة والعزيمة والجدية، نرى تساقط وفشل وانهيار المشاريع العربية الواحدة تلو الأخرى، وما كان قبل سنوات ممكنًا وسهلًا، أصبح اليوم بعيدًا جدًّا عن التحقيق. “زغرب” مدينة جميلة تبعث في النفس الشعور بالارتياح، أحببتها ما أن وطئت قدماي أرضها، اللمسات الجمالية، التشجير الواسع في الشوارع والساحات ينشر الظل ويجلب الهواء المنعش، فالأشجار عملاقة ويزيد عمرها على المائتي سنة، الحدائق والجنائن المقامة على مساحات واسعة جدا تستقطب الأسر للتنزه والترفيه عن النفس، رقي العمارة وفخامتها والتي تبعث على الإثارة والتأمل، الساحات والأزقة والنوافير والتماثيل والنُّصب التذكارية والمقاهي والأسواق والشوارع في تصميمها وهيئتها، ووسائل النقل بأنواعه وألوانه ويسر استخدامه وحركته النشطة... جميعها تسعى إلى تحقيق غاية أساسية وهي إسعاد الإنسان وتعميق شعوره بالراحة وتخفيف ضغوط الحياة وتيسيرها عليه، فكلما توغلنا في حاراتها ومعالمها السياحية وشوارعها الرئيسة والفرعية ازددنا شوقًا وارتباطًا بالمكان وتهيئنا للمزيد من مفاجآت الاكتشاف. عشرات المتاحف التي تقدم تاريخ وثقافة كرواتيا وتحوُّلاتها السياسية وصناعاتها وأكلاتها الشعبية، والكنائس القديمة، والمباني الأثرية، والمسرح الوطني بمقره الفاخر والمهيب، وجامعة “زغرب” الأقدم في كرواتيا وأوروبا، ومحطة القطار الرئيسية التي افتتحت في العام ١٨٦٦م، وتمثل وحدها قيمة تاريخية وسياحية عالية، مبنى مقر الحكومة والبرلمان وبوابة “الحجر” الأثرية... والكثير من الصروح والآثار اضطررنا للتعرف عليها واكتشاف أهميتها ودورها الحضاري والتاريخي والثقافي بالتجوال في الحافلة السياحية لمدينة “زغرب”، فهذه الحافلات توفر على السائح الكثير من الوقت والجهد وتساعده على اكتشاف معالم المدن وخباياها وأسرارها مما يجهله الزائر والباحث عن المعلومة والمعرفة. كان ختام المسك زيارة مدينة “سالزبورج”، في النمسا، فيما قضينا ليلتنا الأخيرة في مدينة “ميونيخ” الألمانية، ومن مطارها انطلق بنا الطائر المحلق لمدَّة ست ساعات في جوفه الحديدي إلى مطار مسقط الدولي الذي وصلناه بالسلامة، في الساعة التاسعة والنصف من مساء الأربعاء الموافق ١٨ مايو ٢٠٢٢م. من المواقف المهمة التي صادفتنا وتتطلب الضرورة تناولها في هذا المقال، ما أبلغنا إياه، “حرس الحدود النمساوي” الذي أوقفنا في نقطة تفتيش، عند عودتنا من سلوفينيا إلى ميونيخ، بأن رخصة القيادة العُمانية غير مرخص لها في النمسا، و”الرخصة الدولية ما هي إلا نسخة للمحلية”، وما كانوا ليسمحوا لنا بالمرور لولا التفهم من قبلهم لظرف سفر عودتنا إلى مسقط من ميونيخ صباح اليوم الثاني، وهو ما يتعارض مع بيان وزارة الخارجية بشأن “قبول رخصة القيادة العُمانية للمركبات في النمسا”، الذي صدر في منتصف العام 2021م.
فإلى متى سيظل المواطن العُماني يتعرض إلى هذه الإساءات في عدد من دول العالم، كالنمسا وأذربيجان بدون تحرك من الجهة المختصة لمعالجة هذه الإشكالات التي تنغص مباهج السفر؟

سعود بن علي الحارثي
[email protected]