ما أن هلَّ شهر ذي الحجة حتى بدأت معظم الأسر تستعد لقدوم عيد الأضحى المبارك بشراء مستلزمات الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة التي تتمتع بطقوس خاصة لدى العُمانيين مما يمنحها مذاقا وطابعا مميزا، لذلك ينتظرها المواطنون على أحر من الجمر ويستعدون لها أيما استعداد.
وتُعد هبطة العيد أهمَّ ما يميِّز هذه المناسبة الفضيلة والتي تُعد إرثا تليدا وتقليدا اجتماعيا توارثه العُمانيون الجيل بعد الآخر.. ونحمد الله أن الهبطات ظلت صامدة حتى الآن مواجهة مظاهر الحداثة من انتشار المولات ومراكز التسوق الكبيرة التي أصبحت تجتذب فئة عظيمة من الشباب.. فما زال العُمانيون حريصين على إقامة الهبطات التي تُمثِّل بالنسبة لهم أكثر من مجرد سوق سلع، بل تُعد أولى بشائر فرحة العيد وصورة من صور التعبير عن الهُوية.. وتشهد هذه الأسواق إقبالا كثيفا حيث يتهافت المواطنون لشراء مستلزمات العيد من أضاحي (أغنام أو أبقار) والحلوى العُمانية الأصيلة وأدوات منزلية خاصة بالذبح وتقطيع اللحوم ومعدات شواء مثل عيدان المشاكيك وخصفة الشواء وأوراق الموز والحطب إلى جانب الخضراوات والفاكهة والتمور ولعب الأطفال والملابس والأسلحة التقليدية كالخناجر والسيوف والأحزمة والهدايا، وغير ذلك مما تحتاجه الأسر للاحتفال بالعيد.
ورغم التزاحم الشديد والإقبال الكبير الذي شهدته الهبطات على مستوى محافظات وولايات سلطنة عمان، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي عجت بالشكوى من ارتفاع أسعار العديد من السلع ودارت الكثير من النقاشات والأحاديث حول عدم تمكن بعض المواطنين من شراء كل ما يحتاجونه من مستلزمات بسبب الغلاء، بل إن البعض منهم اضطر إلى الاقتراض حتى يستطيع أن يفي باحتياجات منزله ويشتري الأضحية الملائمة.
لا أحد ينكر أن الغلاء طال معظم السلع، وهذا ليس على مستوى سلطنة عُمان فقط، بل دول العالم أجمع التي تعاني تضخما لم تشهده منذ عقود، فالغلاء عالمي وهناك العديد من الأسباب لسنا بصدد الحديث عنها، ولكن أيا كانت الأسباب، فالنتيجة واحدة وهي أن الغلاء موجود والأسعار ارتفعت بصورة ملحوظة، ولكن هذا ليس وليد الأيام الحالية فقط، بل نلاحظه منذ شهور قليلة، وهنا نتساءل: لماذا لم يضع المواطنون الذين يشتكون غلاء الأسعار هذه الزيادات في حسبانهم؟ ولماذا لا يخططون حياتهم وفق منهج معتدل في الإنفاق يحقق لهم الحياة الكريمة ويقيهم شر الاقتراض والاستدانة؟
لا شك أن الظروف الحالية أصبحت تفرض على الإنسان أن يراجع حساباته، ويعيد تصحيح بعض عاداته وسلوكياته التي تعتمد في مجملها على التبذير وإنفاق الأموال على الرفاهيات والكماليات التي لا تفيد.. فكم منا أثناء تسوقه يملأ العربة بما يعجبه وليس ما يحتاجه ويقع الكثير فريسة لفخ العروض التي تستنزف معظم الرواتب ظنا من أصحابها أنها توفر لهم المزيد من النقود، بينما تدفعهم لشراء كميات أو سلع ليسوا بحاجة فعلية لها.
إن وضع الإنسان خططا طويلة وقصيرة المدى سيوفر عليه الكثير من المتاعب المستقبلية والأزمات المالية التي قد يصادفها مع الازدياد المستمر للأسعار.. فعليه مع بداية كل شهر واستلامه للراتب أن يرسم جدولا يرتب من خلاله أولوياته ويضع تصورا مبدئيا للتكلفة التي يحتاجها، وبالتالي يشتري المنتجات التي توافق ميزانيته ولا يتعداها إلى جانب وضع بند إضافي للادخار حتى ولو كان مبلغا بسيطا، فهذا سيبقيه دائما في منطقة الأمان بعيدا عن الهزات المالية في المستقبل.
لا شك أن التخطيط السليم لموارد الإنسان يساعد على تحقيق الاستقرار له، وهذا بدوره ينعكس على المجتمع ككل.. فعلى كل شخص تعديل عاداته الخاطئة في الإنفاق، والتعامل بذكاء مع الظروف حتى ينعم بالأمان وراحة البال.
**********
ساعات تفصلنا عن يوم وقفة عرفة وعيد الأضحى المبارك وفريضة الحج وجميعها مناسبات مباركة تحمل معاني عظيمة.. فالحج تلك الرحلة المباركة التي بالرغم مما فيها من مشقة وتعب، إلا أنها تحمل مشاعر إيمانية جميلة مع رجاء أن يتقبل الله سبحانه وتعالى الفريضة من الإنسان ويعود مجردا من الذنوب كيوم ولدته أُمُّه.. فيتحوَّل إلى إنسان آخر قريب الصِّلة بربه، فالحج مدرسة تربوية تؤصل فيه معاني العبودية لله الواحد القهار والعطاء والإحسان والالتزام بكافة أشكاله، والحرص على طيب النفقة والكسب، وهو ما يصبُّ في صالح المجتمع وصلاحه.. فالحج رحلة تآلف القلوب وإعلاء كلمة الإسلام وترجمة حقيقية للتسامح والإخاء والعدل والوحدة.. يجتمع فيها المسلمون على اختلاف مشاربهم وألوانهم وألسنتهم.
وعيد الأضحى أيضا يحمل معنى خاصا جدا للمسلمين.. فالوحدة لا تتحقق للحجاج فقط، بل في جميع الأقطار الإسلامية بدليل أن الأضحية التي يذبحها المسلم يشاركه فيها الفقراء والأقرباء والأصحاب والجيران فلكل منهم نصيب مقسوم فيها حدده الشرع، وهو ما يُسهم في نشر المودة والرحمة والتكافل في المجتمعات الإسلامية لتصبح أمة متماسكة خالية من الحقد والحسد والمن.. فإسالة الدماء في هذه المناسبة العظيمة الهدف منها نيل رضا الله سبحانه وتعالى.. من هنا فإن عيد الأضحى والحج كما أنهما فرصة لتجديد الصِّلة بالخالق عزَّ وجلَّ فإنهما كذلك فرصة ذهبية لتوطيد أواصر الأمة الإسلامية.
ندعو الله أن ينعم على أُمَّتنا الإسلامية بالأمن والأمان، وأن يأخذ بها إلى قمة العزة والتقدم.. وأن يتقبل الفريضة من جميع الحجاج ويعودوا من الأراضي المقدسة كيوم ولدتهم أمهاتهم، وأن يكون حجهم مبرورا وذنبهم مغفورا.. وتهنئة من القلب نقدمها نحن العُمانيين لمجدد نهضتنا المباركة مولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه وسدد على طريق الخير خطاه ـ بهذه المناسبة العظيمة.. أعادها الله عليه بالخير والصحة والعافية وجعل جميع أيام جلالته أعيادا مباركة.
وكل عام والجميع بخير.

ناصر بن سالم اليحمدي
كاتب عماني