نواصل الحديثَ حول تحليل بعض آيات الحجِ، نستلهم منها القيمَ التربوية، ومعها بعض الجوانب البلاغية، وندور حول حِماها، ونعبق شيئًا من شذاها، ونجني بعضًا من ثمارها، وجناها، ونعيش في رياضها، رُباها نستمطر عطاءَها، ونَداهايقول الله تعالى:(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة 198 ـ 199).
يتكلم القرآن هنا عن حكم خاص بالحجيج، وهو جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، حيث يجوز له أن يبيع ويشتري، ويحصل الرزق والكسب الحلال، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركًا، ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، ويكون حجه صحيحا، وإن كان عدم التجارة، والتخلي لأعمال الحج أولى وأفضل؛ وذلك لِعُرُوِّهَا عن شوائب الدنيا، وتعلق القلب بغيرها، ودليل ذلك ما رواه الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إني رجل أكري في هذا الوجه، وإن ناسًا يقولون: إنه لا حج لك، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فسأله مثل هذا الذي سألتني، فسكت حتى نزلت هذه الآية:(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(إن لك حجًّا)، فتبين صحة الحج، وعدم فساده، وابتغاء الفضل بمعنى ابتغاء التجارة، والكسب الحلال؛ لقيام المرء بحاجته، وعدم تكفف الناس حتى في أيام الحج، مادام ينهض بكل مناسكه، ولا يشغله هذا الأمر عن أعمال الحج، ولذلك قال تعالى:(ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلًا من ربكم..)، أي: لا إثم على من تكسب واتجر وهو محرم حاج، وها يدل على أن الإسلام دين أتى للحياة وتعميرها، ولصالح المسلم، فالمسألة جائزة ولا حرمة فيها، وهو دين يقدر الإنسان، ويلبي حاجته، ويسعى بأبنائه إلى احترام الذات وتوقير النفس، وعدم تكفف أحد، (لما جاء عبد الرحمن بن عوف، وأسلم، آخى الرسول بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض الربيع على عبد الرحمن بن عوف أن يناصفه أهله وماله، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فذهب، وربح شيئًا من أقط وسمن، فرآه النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد أيام، وعليه وضر من صفرة، فقال:مهيم عبد الرحمن، قال: يارسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: فما سقت فيها؟، فقال:وزن نواة من ذهب، فقال:أولم ولو بشاة) (رواه البخاري)، وفي رواية عند أحمد:(وعليه وضر من خلوق)، وفي رواية:(فرأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشاشة العرس، أي: على وجهه، والصفرة هي صفرة الخَلوق، وهو طيب يصنع من زعفران وغيره)، وكلمة:(مهيمْ) بمعنى: ما شأنك، أو ما هذا؟، وهي كلمة استفهام مبنية على السكون، و(مهيم) كانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء (صلى الله عليه وسلم)، وكان سيدنا سعد أكثر الأنصار أموالًا، ومع ذلك فلم يستغله سيدُنا عبدُ الرحمن، وقابل النبل، والشهامة، والإيثار بالشكر التام، والاعتراف بالجميل، والعفة التامة، وغض الطرف عن مال أخيه، وممتلكاته، ثم لما مات سيدُنا عبدُ الرحمن لم يستطيعوا أن يحصروا ثروته؛ لأنها قد زادتْ زيادة لا تُتَصَوَّر، فرحم الله قلبًا عامرًا بالنشاط، والعفة، من سيدنا عبد الرحمن الذي ربَّاه الإسلام، ونبي الإسلام على كمال العفة، وحُسْن العمل، وسُمُوِّ السعي، واستمرار الدأب، والضرب في سبيل الله، فقدَّم أكمل مثال للأخوة، والنبل، والعفة، والشهامة، والعمل، والحركة، والجد، والاجتهاد، وجاء المدينة فقيرا، لكنه يوم وَدَّعَ الدنيا لم يستطيعوا حصر ممتلكاته، وثرواته، وخرج كريمًا على ربه، وعلى خلقه، وترك أمواله تحكي قصة العفة، وجمال الإسلام، وكمال نبل أبنائه، وجلال قيم الإسلام، وأنه يجبُ أن يسودَ، ويقودَ.
والشاهد هنا أن الإسلام هو دينٌ نزل لهذه الحياة، وليس لدورات المياه، نزل ليعمر الأرض، لا للكسل، وتدمير الأرض، ففي زمن الحج لم يَنْهَالحجيج عن الجد، والعمل، والتجارة، والسعي على الرزق، حقًّا، إنَّ المؤمن يدُه كريمةٌ معطاءُ، ويستحيي أن يمدَّها ليتكفَّف غير الله بها، أو ليطمع في مال أحدٍ، ولو أن هذا الأحد الآخر نفسَه هو الذي عرضها عليه بكل حب منه، وصدق. وكلمة(فضلًا) جاءت منكَّرة لتشمل كل ألوان الفضل، ولا تتقيد بفضل دون فضل، و(مِنْ) تفيد ابتداء الغاية المكانية، فالله منه يأتي كلُّ فضل، ومن لدنهتغشانا كل نعمة، وجاء بقوله:(ربكم)، وهو مقام الربوبية ليتناسب مع سياق العطاء، والرزق، والشفقة، والعون، والرحمة،والفضل، فلم يقل:(فضلًا من الله)، و(ليسعليكم) جناح، فـ(ليس) الناسخة وهي في الوقت نفسه نافية، و(جناحٌ) نكرة، تفيد الشيوع، أي: لا إثمَ مطلقًا في ابتغاء الفضل، ففيه حثُّالسعي،واستنهاض العزائم، وفيه حِلِّ التجارة في زمان الحج للحاج نفسه، فلا يشعرَنَّأيُّ حاج يتَّجِر، أويبيع ويشتري، ويحصِّل قوته ورزقه بأيِّ ضيق، أو أيِّ حرج، وهو كناية كذلك عن سعة رحمة الله، وكثرة عطائه لخلقه، وتقديم شبه الجملة: (عليكم)، وهو خبر(ليس) على اسمها:(جناح) يوحي بالراحة، والطمأنينة، فسبق أنْ رَفَعَ عنهم الجُنَاحَ، حتى يسعدوا بهذه الشعيرة الكبيرة من شعائر الإسلام، ويسعهم ربُّهم برحمته حجًّا، ورزقًا، وتوسعةً، وبركة، واكتسابًا من تجارة، وفيه كلك دليل على حيوية الإسلام، وصلاحيته لكلِّ زمان، ومكان، وإصلاحه أيضًا لما فسد في كل زمان، ومكان، كما أن ابتغاءَ الفضل من الله هو أسمى أنواع الفضل؛ حيث يعطي ـ سبحانه ـ ولا يَمُنُّ، ويَهَبُ، ولا يعاتب، فعطاؤه هو العطاء الصافي عن كل نظر، وعتاب، ومَنٍّ، وهو ـ سبحانه ـ صاحب كل نعمة، والمتفضل بكل شيء، والمعطي بلا حساب، والواهب بلا عتاب، ولا مَنٍّ.
(فإذا أفضتم من عرفات فاكروا الله عند المشعر الحرام)، أعمال الحج متتالية، متعاقبة، جاءت الفاء العاطفة التي تفيد الترتيب، والتعقيب؛ لتبين هذه اللمحة الفقهية، و(إذا) تفيد وجوب حصول ما بعدها، مستقبلًا، وضرورة حصوله، والفعل:(أفضتم) يفيد كثرة الحجيج، فهُمْ كالفيضان المائج، الذي يروح يمنة ويسرة، ويعلو ويسفل، ويأخذ في طريقه كل شيء، فعلى مرمى البصر ترى الأفواج من البشر، تموج بهم الأرضُ مَوْجًا، وتميد بهم الجبال ميْدًا، وتعجُّ الشعاب، والوديان، وتَغَصُّ الوهادُ، والنجاد، وتشعر كأنَّ فيضانًا حقيقيًا بين ناظريك، لا ينتهي، يأخذك يَمنة، ويمضي بك يَسرةً، بكلِّ قوة، فأينما ترمي بالبصر يطالعك آلاف البشر، يمينًا، وشمالًا، شرقًا وغربًا، جبالًا وتلالًا، مرتفعاتٍ ومنخفضاتٍ، وكلمة (تفيض) فيها تشبيه هذه الأمواج العارمة بالفيضان الهادر، كما أن فيها كنايةً عن الأعداد الرهيبة الغفيرة من الحجاج كلَّ عام التي تهزُّ الأرض، وترتجُّ بهم جنباتُها، وخصوصا عند الخروج من عرفة بعد مغرب يومِه، حيث تجدُ الجميع ينتظر الانطلاق كالطائرة التي استعدتْ، وبدأتْ محركاتها في العمل، وعلا صوتها، ثم طارت كيلواتٍ على الأرض بسرعة هائلة، لا تُتَخَيَّلُ، ثم ارتفعتْ تضرب طبقات الجو بكل قوة، وعنفٍ، واقتدار حتى أخذت طريقها، واعتدلت في الجو، واستوت، وارتجت معها طبقات الهواء، وماجت، واضطربتْ كما يفعل الفيضان بمياهه.
و(مِنْ) لابتداء الغاية المكانية، أيْ دفعتم مبتدئين من عرفات، أو من مشعر عرفات الذي ظللتم عليه طيلة يومِكم هذا، يوم الحج الأكبر، يوم عرفات، يوم الجائزة، وغسل الذنوب، ومحو العيوب، يوم التجلي من الله على عباده، وعودتهم مغفورًا لهم: تدعون، وتستغفرون، وتبكون، وتجأرون، وتتصدقون، وبكلِّ لون من ألوان العبادة إلى ربكم تتقربون، ومنه الرحمة تستمطرون، والمغفرة ترجون، وبيضَ الصحائف تتمنون، وفي ربكم وعطائه تأملون، وفي سعة رحمته تطمعون:(..رجع كيوم ولدته أمه)، وهو أكثر ما يغفر، ويرحم في هذا اليوم في صعيد عرفات المبارك، ويغتاظ الشيطان ويندب حظه من كثرة المغفرة.
ومعنى:(فإذا أفضتم): إذا دفعتم بأنفسكم، وأولادكم، وسياراتكم، وأمتعتكم من عرفات إلى مزدلفة التي فيها المشعر الحرام، فليكن دأبكم ذكر الله المتواصل، والذِّكْر هو أكثر الكلمات ورودًا في شعيرة الحج، حيث تكررتْ كثيرا، ونبَّه عليها القرآن الكريم مرارًا مع كلِّ منسك من مناسك الحج، كما هنا:(فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم)، والأمر للنصح، والإرشاد، والمفعول به تشريف أيما تشريف، وهو اسم الجلالة حيث نذكره بكل ما علَّمنا إياه الرسول الكريم، والكاف في (كما) تفيد التعليل،أي اذكروه لهدايته إياكم من الضلال، والتخبط، وفساد الاعتقاد، وسوء المسلك، والإنقاذ من النار، وتبصيره لكم بسلامة الطريق.
والمشعر الحرام هنا كناية عن موصوف هو (مزدلفة، أو جُمَع)، وهي المحطة التي يستريح فيها الحُجَّاج، ويَصِلُونها، فيُصلُّون المغربَ، والعشاءَ جمعًا وقصرًا، جمع تقديم ويقصرون العشاء ركعتين، ويجمعون الحصى، أو الجِمار ليوم النحر(يوم العيد)، ثم ينامون؛ لينطلقوا إلى مشعر (منى) المحطة الأخيرة من أعمال الحج قبل طواف الإفاضة، والحَلق، وانتهاء الحج، حيث يمكثون فيها ثلاثة أيام لذكر الله امتثالًا لقوله تعالى:(واذكروا الله في أيام معدودات..)، ومن تعجَّل فيومان فقط، وهي من الحَرَم، وعَرَفَةُ من الحِلِّ، فقد دخلنا في المشعر الحرام، ومسجده معروف هناك، يسمى مسجد المشعر الحرام، وفيه كناية عن ترقيق القلب، وشحذ الهمم، واستشعار حرمة الحج، وقدسية أعماله، ووجوب العمل بها بدقة.
وهنا أسلوب قصر بحذف المفعول الثاني من الفعل:(هداكم)، أي هداكم الطريقَ المستقيمَ، طريق الإسلام، والنور، طريق الرحمة، والكمال، طريق الله، ورسوله.
ثم يأتي التذكير بالنعمة، والفضل، وأنه لولا الله لما اهتدينا:(وإن كنتم من قبله لمن الضالين)، فهي كناية عن سعة رحمة الله، وكمال عطائه، وشامل كرمه، واستعمال اللام (لمن الضالين) يدل على رسوخهم في الضلال، وانغماسهم فيه، ثم أدركتْهم رحمةُ الله، فيجب الشكر عليها، ويلزم المرءَ مواصلةُ الحمد لربه على نعمة الهداية، وقدسية العطاء.
وهنا كذلك إيجاز بالحذف، حيث حذف جوابَ الشرط؛ لأنه معلوم من السياق، أي: وإن كنتم من قبله لمن الضالين فاذكروه، واشكروه كما سبق أنْ هداكم، وبصركم، وأنقذكم من النار، ثم لفت أنظار قريش التي كانت تفيض من مكان غير مكان إفاضة الناس، ويقولون:(نحن أهل حرم الله، لنا خصوصية على غيرنا)، وهو ما أكدتْهُ روايةُ الإمام الترمذي، حيث روى عن السيدة عائشة ـرضي الله عنها ـ أنها قالت: كانت قريش، ومن كان على دينها، وهم الحمس يقفون بالمزدلفة، يقولون: نحن (قَطِينُ الله) أي: أهل مكة، وساكنوها، وقاطنوها، وقَطِينُ الله: تُقال لأهل مكّة، وعاكفيها، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل الله تعالى:(ثم أفيضوا من حيثُ أفاضَ الناس) هذا حديث حسن صحيح، وفي صحيح مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:(الحُمْسُ هم الذين أنزل الله فيهم: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحُمْسُ يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت:..أفيضوا من حيث أفاض الناس) رجعوا إلى عرفات، وهذا نص صريح في هذا المعنى، وفيه تربية للمسلم أن يتساوى مع أخيه.
وجاء في لسان العرب:(حمس: حمِس الشرُّ: اشتدّ..، والحُمْسُ: قريشٌ؛ لأنّهم كانوا يتشدّدون في دينهم، وشجاعتهم، فلا يُطاقون، وقيل: كانوا لا يستظلّون أيّام مِنًى، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، وهم مُحْرِمون، ...، وقال أبو الهيثم: الحُمْسُ قريشٌ، ومَنْ ولدتْ قريشٌ، وكنانةُ، وجَدِيلةُ قيسٍ...، هؤلاء الحُمس، وسمّوا حُمسًا؛ لأنّهم تحمّسوا في دينهم، أي تشدّدوا. قال: وكانت الحُمْسُ سكّانَ الحرم، وكانوا لا يخرجون أيّام الموسم إلى عرفات، إنّما يقفون بالمزدلفة، ويقولون: نحن أهل الله، ولا نخرج من الحرم) (راجع لسان العرب لابن منظور (مادة ح. م. س)، د.ت، مج1، ج9، ص 595).
و(ثمَّ) للترتيب، والتراخي، والأمر:(أفيضوا) للنصح، والعظة، والإرشاد، والتبصير، و(الناس) هنا قد تنصرف أل العهدية، أي إلى مفرد، هو سيدنا إبراهيم، كما قال الله في آية أخرى:(أم يحسدون الناس..)، أي:يحسدون إبراهيم ـ عليه السلام ـ على ما آتاه الله من فضله، وحباه من نعمه، واتخذه خليلًا له، وقال فيه من قبلُ:(إن إبراهيم كان أمة..)، وإما أن تكون (أل) جنسية، أي مطلق الناس، وهم الحجيج من المسلمين أجمعين، وفيه كناية عن ضرورة، ووجوب التواضع في العبادات، مهما بلغ صاحبُها من درجة القرب، والنسب، والشرف، والعبادة، أو مهما كان من أهل الحرمين، ومولودًا فيهما، وناشئ بين ظَهْرَانَيْها، وفيه كذلك كناية عن مساواة الناس بعضِهم بعضًا في الإسلام، وأنه لا فضل لأحد على أحد بسبب المكان، أو المنشأ، إنما الفضل للتقوى، والامتثال لله، وصدق السير في طريقه.
كما أن فيه تعليمًا من الله لعباده بوجوب الوَحْدة، والترابط، و(الناس سواسية كأسنان المُشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيضَ على أسودَ إلا بالتقوى).
وخُتِمَتِ الآيةُ بفعل الأمر:(واستغفروا الله)، وفيه نصح، وإرشاد، وأمر على الوجوب، وفيه كذلك كناية عن صدق العبودية، وسرعة الإخبات، والإقرار بالتقصير، والذنب المقتضي للاستغفار، ويأتي الختام المريح لكلِ نفسٍ مسلمة تحُج، أو ترتقب أعمال الحج، وتتمناه:(إن الله غفور رحيم)، وهي جملة اسمية، وكونها اسمية فهي مؤكدة، لأن الاسمية تفيد ثبات الحكم، وثبوته، واستمراره، وهي كذلك مؤكدة بـ:(إنَ)، أيْ: أن هذا الفضل مؤكدٌ حصولُه، ومتيقَنٌ وقوعُه، واستمراره، وهو أن الله ـ جلَّ جلاله ـ يغفر، ويرحم، وخصوصًا في تلك الأيام المباركة من أيام العشر الأوائل من ذي الحجة التي يُؤَدَّى فيها أعظمُ ركنٍ من أركان الإسلام، ركنِ الحج الأعظم، وفيه لحظاتُ التجلِّي بالمغفرة التامة، والعفو الشامل، والرحمة الكاملة التي يتجلى فيها المولى ـ جلَّ جلاله ـ على عباده، بالغفران، والإحسان، والعفو، والرضوان.
نسأل الله أن يتقبل ممَّن حجَّ حجَّه، ويرزق مَنْ لم يَحُجَّ شرفَ حجِّ بيته الحرام، وألا يحرمَنا نعمة الغفران، وأن يبيِّض صحائفنا بفضله، وأن يكتبَ لنا ثوابَ الحجيجِ جميعًا، وأن يحملنا إلى بيته تكرمًا منه وفضلا، إنه وليُّ ذلك، والقادر عليه، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

* د.جمال عبدالعزيز أحمد