أيها الإخوة الموحدون.. نعيش هذه الأيام المباركة من شهر ذي الحجة المحرم، وقد أظلنا بأيامه العشر الأولى منه التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم مقسما بها،(والفجر، وليالٍ عشر)(الفجر 1ـ2)، يقول الإمام الطبري في تفسيره المسمى (جامع البيان، ت: شاكر 24/‏ 396):(عن زرارة، عن ابن عباس، قال: إن الليالي العشر التي أقسم الله بها، هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة)، وقد وصفها رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) بأنها أفضل الأيام، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم):(مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟، قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) (الجامع الصحيح للسنن والمسانيد 7/‏ 271).
فهي أيام مباركة ذات فضائل عظيمة، وبها منح ربانية كريمة،على من هم يؤدون المشاعر المقدسة في مكة المكرمة ـ نسأل الله تعالى أن يكتب لنا الحج مثلهم ـ وكذلك على من لم يكتب لهم الحج والزيارة، فإن بركة تلك الأيام تنالهم أيضاً وهم في أماكنهم وبلدانهم، فهي أيام مباركة على الجميع أي نعم مباركة على الجميع، ولمَِلا؟ وهي أيام تؤدي فيها شعائر الله،حيث يفد الحجيجإلى بيت الله الحرام من كل فج عميق، في مؤتمر عالمي لا يشهد العالم مثله وهو ما تميزت به هذه الأمة الإسلامية عمن سواها، يقبل الحاج في رحلة الحج إلى ربه، تلك التي يكّفر الله تعالى عنه بها ذنوب ما فات من عمره، فبالحج ينجو المسلم من النار ويعود بلا ذنب ولا سيئة، ففي (صحيح البخاري 2/‏ 133): (حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ:(مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ).
فالحج بمثابة ميلاد جديد وخير تجديد للعمر والحياة الروحية والبدنية، وليس مجرد أداء فريضة أوركن من أركان الإسلام، بل هو رحلة تقرب إلى الله تعالى، يشعر بأثرها الحاج بمجرد أن يغادر أهله وذويه، لأنه يعيش في أيام مباركة معظًّما ربه ـ جلَّ وعلا ـ يتنقل من مشعر إلى آخر، ومن شعيرة إلى أخري، ومن طواف وسعي إلى وقوف ورمي، يستذكر رسولنا محمد ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ وهو يحج ويعلم الناس وهم يسيرون على نهجه حتى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة، ففي (صحيح مسلم 2/‏ 943): عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ).
فالحاج وهو يؤدي شعيرة تلو أخرى تطأ قدمه مكانا وطيئته قدم سيدنا رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) وربما تكون قد وطيئته أقدام سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ يتجرع من بحر الإيمان الرقراق، ويزداد من نور اليقين البراق، يقلب ناظريه بين جموع غفيرة الجميع جاءوا لنفس المقصد الأسمىليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، يقضوا مناسكهم، ويوفوا نذورهم، ويطوفوا بالبيت العتيق،الكل يلهج لسانه بذكر الله وتوحيده وتهليله وتحميده،غايتهمالتعظيم لله وبغية رضاه،يقرون له سبحانه بوحدانيته وفضله ونعمه، يعظمون شعائرهوحرماته،فما أعظمها من شعائر تهيء مشاعر الحجيج لاستقبال التجليات النورانية على القلوب، فمنذ طوافهم حولالكعبة المشرفة بين جموع الطائفين والقائمين والراكعين والساجدين، باختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم إلا أنهم يعبدون ربا واحدا ويجتمعون على قبلة واحدة وهم أمة واحدة. يا لها من مشاعر جياشة فالجموع بين بكاء ومناجاة تجعل الأبدان في قشعريرة من الخشوع والخضوع والخوف والرجاء، في جو نوراني يملأ الأجواء،ومشهد يلتقي فيه الإيمان والجلال، ويا له من حظ حسن لمن استلم الحجر الأسود والذي قبله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فعَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: (إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ)(صحيح البخاري 2/‏ 149). وطوبى لأهل الملتزم ويا لها من بشرى لكل من التصق به وضمه،طالبابكل حب وشوق القرب للبيت ولرب البيت سبحانه،ففي (سنن ابن ماجه 2/‏ 987)عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:(طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ السَّبْعِ، رَكَعْنَا فِي دُبُرِ الْكَعْبَةِ فَقُلْتُ: أَلَا نَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ: ثُمَّ مَضَى، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ قَامَ بَيْنَ الْحَجَرِ، وَالْبَابِ، فَأَلْصَقَ صَدْرَهُ، وَيَدَيْهِ، وَخَدَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: “هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ،) ثم مقام إبراهيم والذي أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى،والله الله لمن سعى بين الصفا والمروة وهو يستشعر استجابة الله لمن يدعوه، وإغاثته سبحانه لمن يستغث به متوجهًا إلى الله ربه ورب كل شيء، موقنًا أنه سبحانه لن يضيعه، وهو ما أكده سيدنا إبراهيم عليه السلام لزوجته هاجر، وبينما هو يرمي الجمار يجعل فاصلًا بينه وبين الشيطان لا يوصل أبدًا، مؤكدًا عداوته له ومخالفته لوساوسه، سادًّا عليه كل باب يمكن أن يفتنه منه، مستحضرًا عهد الشيطان الذي قطعه على نفسه بين يدي ربه،ثم يقف على عرفات الله ذلكم الجبل الذي تتنزل عليه الرحمات، وتغفر لمن وقف عليه السيئات، ولهذا سمي بجبل الرحمة، فكل من فوقه داعين مُلبّينمتنسكين خائفين وجلين عابدين خاشعين متعبدين، وهكذا حتى يقضي مناسك الحج ألا يخرجه ذلك من مناسكه وقد استجمع في صدره نور اليقين، وازدادت بصيرته وأضاء قلبه بتقواه فيستقم أمره وسلوكه ويخلص عمله، فلا يقصّر في أداء شيء مما افترضه عليه ربه، ولا يستهين بشيء مما شرعه الله تعالى، ولا تخطفه الأهواء ولا تستهويه الشبهات ولا تتجاذبه الشهوات، فتزرع في صحائفه حقيقة التقوى، فبمناسك الحج وشعائره تهتدي الأنفس وتطهر الأرواح وتعظم شعائر الله، فتضاء مشاعر المؤمن بنور ربه.

* محمود عدلي الشريف