دائما ما تحتاج الفعاليات والاستحقاقات فترة إعداد، تطول وتقصر حسب أهميتها والقضايا التي تتمحور حولها وتناقشها، والمساحات الزمانية والمكانية التي تشغلها، سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو سياسية، أو اجتماعية.
وغالبا ما تتمخض عن هذه الاستحقاقات حزمة من القرارات والتوصيات التي يخلص إليها القائمون عليها والمشاركون فيها، وينادون في آخر جلساتهم إلى العمل على متابعتها وتنفيذها على أرض الواقع، وإلا لمَ أقيمت هذه الفعاليات، وما الجدوى من تنظيمها، وهدر الوقت والجهد، في سبيل الخروج بها من حيز الفكرة، إلى حيز التطبيق؟!
أقول هذا وقد تابع الكثيرون غيري ـ سواء كانوا من المشتغلين بالحقل الإعلامي أو من المهتمين ـ العديد من الاستحقاقات التي تتمحور حول قضايا مهمة تشغل الرأي العام، ويريدون أن يقفوا على ما ستخرج به في نهاية مطافها.
البعض منا ـ إن لم يكن جميعنا ـ يصاب بخيبة أمل عندما تنقضي هذه الاستحقاقات، ويمر عليها وقت ليس بالقصير، وربما تتكرر شبيهتها، بعد انقضاء عام أو أقل أو أكثر، دون أن يرى أي صدى لها على أرض الواقع، مع أن من يرى حجم الحماسة في عيون المتابعين والمنظمين والمشاركين وقت إقامتها، لا يخالجه أدنى شك، في أنه سيرى التوصيات وقد فرضت نفسها وترجمت أفعالا على أرض الواقع، وأصبحت إنجازات تحسب للجهة المنظمة، حتى لو لم يتدخل أحد ـ ممن يهمه أمرها ـ ويبذل أدنى جهد ـ لتحويلها واقعا نراه ونلمسه.
لا يختلف إثنان على خطورة المرحلة التي نعيشها، على المستوى الدولي أو العربي أو الإقليمي، وقد أصبح المثقف العربي في موقف لا يحسد عليه، حيث ينظر إليه المجتمع، نظرة لا تخلو من الدهشة، وقد انبرى في أكثر من موقف، يتشدق بعبارات فضفاضة، متوهما أنها ستشفع له لدى متابعيه، وترفع عنه الحرج أمامهم، متناسيا مستوى الوعي الذي وصل إليه العامة، جراء معايشتهم للأحداث حولهم، ولم تعد تنطلي عليهم التصريحات الرنانة، أو المقالات الطنانة، مؤكدا هو على دور المثقف أمام كم التحديات الراهنة التي يعيشها مجتمعة، متناسيا أنه أحد المثقفين، الذين وجب عليهم أن ينتبهوا إلى أدوارهم الحقيقية تجاه مجتمعاتهم؛ فلا يغض الطرف أو يتعامى عنها.
قد يتعذر البعض من مثقفينا، بأن الأجواء المعاشة لا تسمح لهم، بتعدي خطوط ـ لونها لهم أصحاب القرار ـ وأنهم ليس بوسعهم تجاوزها، متذرعين بمساحات الحرية المتاحة في بعض البلدان، متناسين أنه ليس بالصدام فقط تدار الأمور، فهناك سبل كفيلة بمناقشة ومعالجة الكثير من القضايا التي تهم المجتمع، إذا وعينا الفارق بين حرية التعبير، وبين تجريح ومهاجمة الآخرين. في حين يرى البعض الآخر اللاجدوى من مناقشة القضايا التي لا يستجيب له فيها أحد، أو حتى يسمعه فيها، وقد يرد عليه صدى صوته في الأغلب الأعم، ولكن هذا أيضا مردودة عليه حجته، في أن واجبه التنبيه إلى مكامن الخلل، فيخلي مسئوليته أمام نفسه أولا، ومن ثم أمام مجتمعه. وهناك من هو منوط به مسئولية إيجاد الحلول لها، وما ينطبق على البعض طبعا لا ينطبق على الكل، فهناك من الأقلام ما تعي أدوارها تجاه مجتمعاتها؛ فلا تتوانى عن طرح ما يخصها من قضايا.
بعض هذه التحديات الراهنة التي تعيشها أوطاننا العربية، ناقشها اتحاد الأدباء والكتاب العرب خلال اجتماع مكتبه الدائم، في العاصمة الإماراتية أبوظبي، وشاركت فيه (الجمعية العمانية للكتاب والأدباء)، نهاية الأسبوع المنصرم. وفي "بيانه الثقافي" الذي أصدره خلال الاجتماع، أقر المكتب الدائم لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، جملة من القرارات التي تهتم بالشأن الثقافي العربي منادين بتوحيد جهود اتحادات الكتاب العرب في مواجهة ثقافة التكفير والعودة إلى عصور الظلام، وتعزيز البحث العلمي في الوطن العربي عامة وفي التراث غير المادي خاصة، وتوظيف اللغة العربية كلغة أولى في مراحل التعليم الأساسي في الوطن العربي والاهتمام بتطويرها، وتعزيز استقلالية الثقافة والمثقفين عن التبعية للسلطة لكي يقوموا بأدوارهم الطليعية، ورد الاعتبار وتكريم المفكرين التنويريين الذين عانوا من عسف واضطهاد فقهاء الظلام، ومساندة ودعم الأقلام الحرة المضطهدة من قبل الأنظمة الاستبدادية والجماعات التكفيرية والطائفية.
وقد توصل المجتمعون إلى صياغة "إعلان" أطلقوا عليه (إعلان أبوظبي) أكدوا فيه على دعوة الأدباء والمفكرين والمثقفين والفنانين إلى الاضطلاع بالمسؤولية والقيام بالدور المنوط بهم وبما يليق بالثقافة العربية في مواجهة سياقات الإلغاء والإرهاب والتكفير، واستنهاض مقومات الثقافة العربية المشتركة ومكوناتها وبخاصة التأليف والترجمة تعريفا بأمتنا العربية وتقديم صورتها للغرب بما يليق بإرثها المعرفي والحضاري، ودعوة الاتحادات القُطرية إلى تفعيل المشاركات الخارجية في مجالات الثقافة والآداب والفنون للوقوف على ما لدى الآخرين من رؤى واستراتيجيات وإدماج ما يصلح منها في ثقافتنا العربية، ودعوة المؤسسات الثقافية إلى بذل المزيد من العناية بالمثقفين والمفكرين والأدباء والكتاب والفنانين بما يضمن حريتهم وكرامتهم، ويحمي إنتاجهم من السطو والاستغلال والاستلاب، ودعوة المثقفين والمفكرين والكتاب والأدباء إلى تقبل النقد الموضوعي، وتطبيق القيم التي يدعون إليها تطبيقا عمليا باعتبارهم قدوة لغيرهم، وتعظيم دور الثقافة الشاملة في عملية التنمية المستدامة، وإبراز الروابط المشتركة والعضوية ما بين الثقافة والتنمية، والتأكيد على دور الأدباء والفنانين والمثقفين في تكوين العقل المنفتح على الآخر، والقادر على الفرز والتمحيص بين ما يقدم إليه، والتصدى لمحاولات التجهيل والتغريب المتعمدة، ونشر قيم المحبة والتسامح والسلام والاعتدال والانفتاح على الآخر.
ومن فرط كرمهم، زاد المجتمعون على (الإعلان الثقافي) و(توصيات الاجتماع) ثلاثة مقترحات بتخصيص عام 2015 عاما للناقد والأديب والمفكر المصري لويس عوض، بمناسبة مئويته، وتخصيص عام 2016 عاما للغة العربية، واختيار يوم الحادي عشر من ديسمبر من كل عام يوما للكاتب العربي.
وبالعودة بالزمن قليلا، إلى شهر نوفمبر من عام 2013، حينما احتضنت العاصمة مسقط، اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، وللحق ـ وحتى نكون منصفين ـ كان الاجتماع عامرا بالفعاليات الثقافية والأدبية المصاحبة، ولكن لو أعدنا تلاوة بيان الحريات والبيان الثقافي والتوصيات التي خرج بها الاجتماع، سنجدها قريبة الشبه ـ إن لم تكن توأم ـ قرارات وتوصيات الاجتماع الذي اتخذ من العاصمة أبوظبي مقرا له، خلال الأسبوع الماضي.
وحتى لا نغمط (اتحاد الأدباء والكتاب العرب، والجمعيات والروابط والاتحادات التي تستظل به) حقها، فإنني أذكر المتابعين والكتاب والأدباء، والمهتمين بالشأن الثقافي، بالأدوار الكبيرة التي يقوم بها اتحاد الأدباء والكتاب العرب، وما يستظل به من جمعيات وروابط واتحادات، لما لها من تأثير كبير في الشأن الثقافي والأدبي العربي، ولنتذكر أنه احتضن في اجتماعه الأخير في أبوظبي ندوتي (الملكية الفكرية والتنمية الثقافية)، ومدى تأثيرهما ـ إن فعِّلا ـ في المشهد الثقافي العربي، وأقيمت على هامشه العديد من الأمسيات.
لكنني أعود لأؤكد أن ما ينتظره المثقف والكاتب والأديب، هو تفعيل القرارات والتوصيات التي تخرج بها هذه الاجتماعات، وقد أعلن خلال اجتماع أبوظبي، أن الاجتماع المقبل للاتحاد ستستضيفه مدينة (طنجة المغربية) مايو المقبل، وستستضيف أبوظبي المؤتمر العام السادس والعشرين للاتحاد نهاية العام الجاري 2015، ومن الآن (نهاية يناير) إلى شهري مايو وديسمبر المقبلين، سننتظر لنرى كيف ستفعَّل أي من القرارات والتوصيات التي أعطتنا بريق أمل في غد أكثر إشراقا.

إيهاب مباشر