إن التوافق الحضاري العربي يجمع أبناءه بفضل هذه الحضارة التي تجعل الحالمين يذهبون بأحلامهم إلى غد أفضل، وتفتح الطريق للتواصل الحضاري القائم على شواهق المدن، لتكون هناك حياة قابلة للحياة..
العلاقة بين الماضي والحاضر وخصوصا الماضي البعيد دائما ما يفوح منها عبق يجسد الأخوة في الجينات نلحظ ملامحها تارة في المحبة، وتارة أخرى في الصفات، والوطن العربي به هذا المزيج الحضاري الذي يجمع الحضارات الثنائية بين بعض الدول، كتلك التي نتنسم روعة عطرها منذ 3500 عام، بين حضارة عُمان وحضارة وادي النيل، وكيف نشأت التجارة بينهم والأكثر شهرة فيها هو ما تحكيه كتب التاريخ ويؤكد عليه علماء الآثار من التجارة التي نشأت بين محافظة ظفار ومعابد الملكة حتشبسوت التي كانت تقوم بابتعاث أساطيلها البحرية للتجارة في ظفار من أجل جلب أجمل الأشياء، وفي المقدمة منها اللبان العُماني صاحب الشهرة العالمية في جودته ونقائه، والذي كان يستخدم في علم التحنيط، وفي طقوس ملكية عديدة، هذه العلاقات الحضارية جعلت هناك نسيجا حضاريا متميزا بين الشعبين العُماني والمصري على جميع المستويات والتي أخذت تتطور بقدر ذهاب الدولتين إلى سياسة واستراتيجية ثقافية ومجتمعية كبيرة بين البلدين، وهي ترجمة بطريقة عملية تمت خلال لقاء صناعة التاريخ بين قائدي البلدين جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله وأبقاه ـ وأخيه فخامة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وكيف رأينا هذا اللقاء الأخوي بينهما والذي تقرأه العين ويشعر به القلب قبل أن تسطره وسائل الإعلام وتبوح بأسراره وقراراته البيانات، وقد كنت بصفة شخصية شاهدا على هذا النسيج الحضاري قرابة أكثر من ربع قرن استمتعت خلالها بحلاوة العيش في مسقط، هذا البلد الجميل بل والأكثر جمالا بأهله ونقائهم ومحبتهم وكرمهم، حتى أنني عشت طيلة هذه الفترة ولم أشعر خلالها مطلقا بالغربة أو أني خارج الديار المصرية، مما جعلني أحفظ الشوارع والطرقات في مسقط أكثر مما أحفظ طريق بيتي في القاهرة.
هكذا كانت وما زالت الحضارة بين الدول تجمع أكثر من غيرها على التوافق والعيش الكريم، وكثيرة هي الدول العربية التي تحظى بتلك الحضارات المتميزة. فعلى نفس النسق، حين جمعت الأقدار الشعب المصري والتونسي في نفس الأحداث ونفس الظروف التي مرَّ بها البلدان وما زالا يتشابهان في الكثير من الأحداث والوقائع عبر التاريخ وتتطابق وجهات النظر والرؤى الإقليمية والمحلية في كثير من القضايا، وعبر التاريخ يمتد خيط كبير يربط نسيجه بين القاهرة وتونس منذ الدولة الفاطمية التي نقلت عاصمتها من المهدية في تونس إلى القاهرة في مصر، ونقلت معها العمارة الفاطمية والآثار الإسلامية، ولهذا يسري خيط الفكر الإسلامي المستنير بين جامع الأزهر في مصر وجامع الزيتونة في تونس، وحتى أن جامعة الدول العربية عندما تم نقلها من مصر بعد المقاطعة العربية عقب اتفاقية السلام في نهاية السبعينيات لم يجد العرب غير تونس لتكون البديل الأقرب لاستضافتها.
إن التوافق الحضاري العربي يجمع أبناءه بفضل هذه الحضارة التي تجعل الحالمين يذهبون بأحلامهم إلى غد أفضل، وتفتح الطريق للتواصل الحضاري القائم على شواهق المدن، لتكون هناك حياة قابلة للحياة.. حياة تتوافر لها شروط الحياة من أمان واكتفاء كريم وأمل وعمل وحرية. بفضل الخبرة الإنسانية التي توفره في رحلة الحياة، خلال توالي تلك الحضارات الإنسانية بين الدول العربية، لذا ينبغي علينا استغلال حضارتنا وتراثنا وتاريخنا من أجل حضارة عربية حديثة نتباهى بها كما نتباهى بالذكر لحضاراتنا القديمة.
جودة مرسي
[email protected]
من أسرة تحرير (الوطن)