في الوقت ذاته، تترافق عمليات الهدم الإسرائيلية مع عمليات تزوير كبيرة وخطيرة تقوم بها جهات يهودية متطرفة لشراء عقارات عربية في القدس القديمة..
تتجاوز قضية القدس العربية الفلسطينية المحتلة بشقيها الغربي المحتل عام 1948 والشرقي المحتل عام 1967، المفاوضات المطروحة على جدول أعمال عملية التسوية المأزومة و”المتوقفة” في الشرق الأوسط، وتتعدى المسؤولية الفلسطينية فيها لتصبح مسؤولية عربية وإسلامية ومسيحية بامتياز.
فقضية القدس تضاف إلى مجمل العناوين الساخنة التي تشكل جوهر القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، كما هي حال قضية اللاجئين وحقهم في العودة وفق قرارات الشرعية الدولية. ويعدها ذوو الشأن في الساحة الدبلوماسية الدولية “إحدى إشكاليات العالم المعاصر والقضية ذات التدخل الدولي المستديم”. فهي تشكل العنوان الأكثر عاطفة في العالم، والأرسخ رمزية، والأعمق تجذرًا في الوجدان الديني والقومي والإنساني لجمهور المؤمنين من أبناء الرسالات السماوية الذين عاشوا أو ارتحلو إليها كحجاج منذ فجر تاريخها وفي كنف الدولة العربية الإسلامية وصولًا إلى عام النكبة بكل ارتياح ومودة وأخوة.
إنها القضية الرمزية الأكثر عدالة لشعب مقهور لم يذق طعم الاستقلال منذ ما قبل محنته الكبرى عام 1948. وهي بهذا المعنى قضية عادلة وصارخة، لمدينة فريدة، وتاريخ فريد لشعب ما زال يمتشق صهوة الفعل وإرادة الحياة، بالرغم من كل ما أحاط ويحيط به من عوامل الانكسار والاستبداد على يد طواغيت القوة.
وفي شأن عمليات التهويد والاستيطان الإحلالي.. فإن رحلة الاستيطان الصهيوني التهويدي التوسعي داخل المدينة وعلى حدودها تلخص بشاعة الإجحاف الذي تمارسه الدولة العبرية الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني وحاضره ومستقبله، حيث لم تكن الأرض الفلسطينية ومن ضمنها المدينة المقدسة وشعبها الطيب سوى موقع ترحيب وإخاء لجميع أبناء البشر من كل الديانات والرسالات منذ الماضي السحيق وحتى لحظات انفلات أخطبوط الغزو الاستيطاني الكولونيالي الصهيوني ودولاب الضم الزاحف، فهناك ما لا يقل عن عشرة كنائس مسيحية في المدينة المقدسة (قبطية، إثيوبية، روسية، أرمنية، يونانية...) وكذا بالنسبة لأتباع الديانة الموسوية ولأفواج المسلمين الذين أقاموا في القدس وحول القدس وأكناف بيت المقدس. إلا أن القدوم الاستعماري التهويدي بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل/سويسرا عام 1897 وإطلاق تيودور هيرتزل دعوته لإقامة الدولة اليهودية في خطوة رحبت بها وساندتها الإمبريالية الجديدة التي صعدت في أوروبا مع نهاية القرن التاسع عشر ـ وكل من موقع حساباته ـ قد قلب المعطيات، وفتح طريق المآسي والدروب الشائكة أمام مدينة وشعب معطاء عاش المحبة والإخاء وصفاء النفس البشرية.
والآن، إن مخططات الهدم والتهجير “الإسرائيلية” الصهيونية في مدينة القدس ومحيطها، تتم بخطوات متسارعة من أجل تحويلها لمدينة يهودية خالصة في سياق المشاريع “الإسرائيلية” الهادفة لإحداث الانقلاب الديمغرافي لصالح أغلبية يهودية على حساب الوجود العربي الإسلامي والمسيحي، بل وإفراغ القدس الشرقية المحتلة تمامًا من العرب حتى عام 2020، وبناء ما تسميه مصادر الاحتلال بالجدار الديمغرافي اليهودي.
واستمرارًا لسياساتها التهويدية، دأبت سلطات الاحتلال على توجيه (الإنذارات/الإخطارات) لأصحاب الأراضي والمنازل العربية في مختلف مناطق القدس وحتى داخل أحيائها القديمة، وذلك في سياقات تنفيذ المشاريع التهويدية لتطويق المدينة من جميع جهاتها بعد توسيع حدودها الإدارية التي باتت تعادل ربع مساحة الضفة الغربية، كما في تسجيل الأملاك والعقارات التي استولى عليها المستوطنون في البلدة القديمة في القدس، من أجل تثبيت ملكيتها لجهات يهودية استيطانية.
إن مخططات التنظيم الصهيونية، والموضوعة منذ عام 1977 تشير إلى خطة الهدم والطرد للمواطنين العرب، بهدف “تأهيل” مناطق مختلفة من القدس كمشروع إقامة “مدينة الملك داوود”، وهدم أجزاء من بناية المجلس الإسلامي الأعلى بجرافاتها. وهو المبنى المعماري الذي انتهى العمل به عام 1929، والذي يقع على بعد عشرات الأمتار من السور الغربي للبلدة القديمة في القدس، وعلى مقربة من باب الخليل، وبالتحديد في حي ماميلا، المقابل لمقبرة مأمن الله الإسلامية التاريخية. والبناء المشار إليه يُعد إحدى روائع الفن المعماري والمعلم الحضاري الإسلامي في القدس، وظلت واجهاتها الخارجية ونقوشها شاهدة على إسلامية وعروبة القدس، وعلى حضارة امتدت إلى الأندلس، بل إن أحدهم شبهها بقصور غرناطة الإسلامية الأندلسية، على الرغم من احتلالها ومصادرتها عام 1948 أي قبل تسع وخمسين سنة. وعمليات الهدم بدأت بهدم أجزاء من الجهة الخلفية الجنوبية والغربية لبناية المجلس الإسلامية الأعلى، بعدما أعملت يد الخراب والهدم في بنائها وغرفها الداخلية.
في الوقت ذاته، تترافق عمليات الهدم الإسرائيلية مع عمليات تزوير كبيرة وخطيرة تقوم بها جهات يهودية متطرفة لشراء عقارات عربية في القدس القديمة، وتعتمد عمليات الغش والاحتيال والتزوير على تسجيل أراض في القدس بأسماء عرب ممن ليس لهم أرض أصلًا في القدس، ومن غير سكان القدس، حيث تأتي هذه الجهات المتطرفة وتعرض أمامهم أوراق “طابو” تثبت أن أراضي مسجَّلة بأسمائهم في القدس القديمة وتعرض عليهم مبالغ كبيرة من الأموال لشرائها، ومؤخرًا تم كشف محاولة من المحاولات المشار إليها حين قامت جماعات استيطانية صهيونية بتزوير أوراق الطابو لشراء قطعة أرض في القدس القديمة تبلغ مساحتها 2600 متر مربع مسجلة بشكل مزور بأسماء أفراد لا علاقة لهم بها، مقابل مبالغ نقدية هائلة. فالجماعات اليهودية العنصرية المتطرفة تقوم بعرض أوراق الطابو للمواطن لإثبات أن له أملاكا مسجلة باسمه في القدس وتعرض عليه أموال طائلة لشرائها.

علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]