«.. فمع أي هزة بسيطة ننكشف على أزمة طاقة وأزمة غذاء وتعطل التجارة.. إلى آخر الأضرار التي نعاني منها الآن وتنذر بفترة ركود اقتصادي عالمي عميق وطويل الأمد.»
خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام، تبخرت من أسواق المال العالمية أموال تصل إلى 14 تريليون دولار، أي ما يوازي أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي كله. لكن تلك الأموال الطائلة لم تكن في أغلبها سوى “ثروات ورقية”؛ أي أرقام على الورق أو في سجلات رقمية على أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) والهواتف المحمولة. جاء القدر الأكبر من تلك الخسائر الهائلة في أسهم شركات التكنولوجيا، من ناحية لأنها الأكثر حساسية للتغير في أسعار الفائدة ولأن المضاربين على أسهمها يسعون وراء العائد والربح السريع الذي يتآكل بشدة مع ارتفاع معدلات التضخم. والملاحظ أن الأصول الرقمية شهدت في الأعوام القليلة الأخيرة مغالاة في قيمتها لا توازي أي شيء حقيقي. إنما كل تلك المغالاة في القيمة هي نتيجة مضاربات سوقية (تسمى استثمارا أيضا) أنتجت تلك الثروات الهائلة بالتريليونات ـ على الورق.
لذا، كان من الطبيعي أن تشهد مثلا العملات المشفرة مثل بيتكوين وإيثيريوم وغيرها انهيارا لتفقد نحو ثلاثة أرباع قيمتها بخسائر تقارب التريليون ونصف التريليون دولار. ذلك لأن تلك المشفرات ما هي إلا أصول رقمية لا تستند إلى أي شيء حقيقي يسند قيمتها. هذا الغليان في قيمة الأصول، والرقمي منها بخاصة، يضر بشدة بالنظام المالي العالمي وتلك الخسائر ضرورية لتخليص النظام من خطر فقاعة ذات أثر سلبي. والحقيقة أنني لم أهتم بكل تلك العناوين المثيرة في وسائل الإعلام من قبيل “أكبر أثرياء العالم يخسرون تريليونات في أيام” أو “كم خسر كبار مستثمري بيتكوين في أسبوع”. فتلك كلها ثروات وهمية، ليست فقط ورقية ورقمية، بل لا أصل لها إطلاقا. ولا يمكن مقارنة تلك التريليونات والمليارات بخسارة مستثمر في مصنع نسيج مثلا يتكبد حتى آلاف الدولارات من الخسائر. أولا لأن تلك الخسائر، على قلتها، حقيقية كما أنها تضر بالاستثمار المستقبلي للمصنع وتؤثر بالسلب على عائلات عاملين فيه. ناهيك عن أن الخسائر في قطاع صناعي أو زراعي أو حتى تجاري معيَّن تعني في النهاية تغيير معادلة العرض والطلب لذلك المنتج أو تلك الخدمة وبالتالي تضغط على السعر الذي يتحمله المستهلك النهائي.
وهكذا، فالأغلب الأعم من الخسائر الورقية والرقمية مهما كان حجمها هائلا هي ذات تبعات إنسانية محدودة. تخيل مثلا أنك اشتريت أسهما أو عملة مشفرة بألف دولار ثم ارتفعت القيمة نتيجة المضاربات وفقاعة غليان قيمة الأصول ليصبح لديك ورقيا أو رقميا مئة ألف دولار. ثم انهارت الأسواق فخسرت تسعين ألف دولار. ستظل حققت مكسبا، دون أي جهد حقيقي أو أي قيمة مضافة، بعشرة أضعاف مبلغ استثمارك الأصلي. في النهاية لا يمكن تصور أن هذا أمر يستحق الرثاء، رغم أن تراكم الثروة مفيد للاقتصاد ككل، لكن الثروة التي تعكس أصولا حقيقية وقيمة مضافة أفضل كثيرا من الثروة “الخيالية” على الورق أو عبارة عن عدة أكواد برمجية ليس إلا. فالأولى ثروة ذات بُعد إنساني، أما الأخيرة فما هي سوى ظل محاكي للواقع.
هناك مؤشرات على أن هذا المنحى بتبخر المغالاة في قيمة الأصول، خصوصا الرقمية، لم ينتهِ بعد وأن هناك المزيد من التراجع في الفترة المقبلة. وأتصور أن ذلك أمر جيد، رغم ظاهره الذي يبدو سلبيا ويكبد المستثمرين خسائر طائلة. أما الجانب الإيجابي، غير تصحيح وضع النظام العالمي ليبدأ مجددا في بناء الثروات بشكل أفضل، فهو أن يدرك العالم ذلك الخلل في توجُّهاته الاستثمارية ويستعيد النهج الأكثر إنسانية في الاستثمار. فقد شهدت السنوات الأخيرة ضخ استثمارات هائلة في مجال التكنولوجيا، وهو أمر محمود طالما كان الهدف تطوير ابتكارات تساعد الإنسان على تطويع الطبيعة وتلبية احتياجاته بشكل أفضل. لكن الملاحظ أن أغلب تلك التكنولوجيات كانت بغرض “الترفيه” فحسب، من تطوير ألعاب فيديو إلى منصَّات تواصل ومحادثات رقمية. طبيعي أن يكون هدف رأس المال هو البحث عن المجال سريع العائد وعالي الربح. وتلك المنتجات الترفيهية تحقق ذلك أكثر من غيرها. لكن، المشكلة أن الثروات تراكمت في تلك القطاعات الترفيهية على حساب قطاعات ضرورية للحياة البشرية من زراعة وصناعة. ولو أن تلك التكنولوجيا كانت موجهة في قدر منها لتلك القطاعات لحققت المستهدف للمستثمر وأيضا لخدمة حياة الإنسان بشكل عام.
بالطبع لا نقلل من أهمية الترفيه في حياة البشر، لكن ما نشهده هو أن صناعة الترفيه تتضخم بشكل يعني أن الإنسان بالفعل “حل كل مشاكله ولم يبقَ أمامه سوى اللعب والاستمتاع”. وكشفت أزمة وباء كورونا وبعدها الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا أن وضع البشرية ليس كذلك. فمع أي هزة بسيطة ننكشف على أزمة طاقة وأزمة غذاء وتعطل التجارة.. إلى آخر الأضرار التي نعاني منها الآن وتنذر بفترة ركود اقتصادي عالمي عميق وطويل الأمد. صحيح أننا في ظل ذلك الركود ستكون لدينا تشكيلة هائلة من الألعاب الرقمية ووسائل التواصل الإلكترونية، لكن الاستمتاع بتلك المنتجات التي استثمرت فيها البشرية بشكل هائل سيكون صعبا ما لم يتوفر الغذاء والدواء، أو حتى بالأساس ما لم نتمكن من توفير الطاقة اللازمة لتشغيل تلك التكنولوجيات الترفيهية.


د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]