أعيادُنا أعيادٌ ربانية، وتأتي بعد طاعات مفروضة، وعقب عباداتٍ إلهية مشروعة، والذي شَرَّعَها هو ربُّ العزة، والذي سَنَّهَا هو المولى ـ جلَّ جلاله ـفعيد الفطر يأتي بعد عبادة الصوم؛ مكافأة للصائمين، وجائزة للطائعين، وعيد الأضحى يأتي بعد عبادة الحج، التي هي أكبر أركان الإسلام، وفرائضه، وتتضمن في ذاتها كلَّ عبادات الإسلام، وفيها قيمٌ تربوية، ومعاٍ إيمانية كثيرة، نضع بين أيديكم بعضًا منها:
هي أعيادٌ تؤكِّد على وَحدة المسلمين، وترابُطِهِمْ، وتآخيهم؛ حيث يبدؤون بتلبية واحدة، وينوُون الحج وحده أو القران مع العمرة بلفظ واحد، ويرتدون ثيابًا واحدة بيضاء، غير مخيطة، ويطوفون حول بيت الله الحرام، بيت واحد في الكون كله، ويسعون في مكان واحد، هو المسعى، ويقفون بمشعر عرفات، وهو جبل واحد، لا ثانيَ له في الدنيا كلها، يقف عليه كلُّ المسلمين من أنحاء المعمورة، يأتونه من كل حدب وصوب، ومن كل فج عميق، ويفيضون منه إلى مزدلفة، أو جُمَع، يصلُّون بها المغرب والعشاء جمعًا، وقصرًا، ويجمعون الحصى أو الجمار منها، ويرمون جمارًا ذات أعداد واحدة، وفي أيام محددة، ويطوفون طواف الإفاضة، أو طواف الحج بتلبيات واحدة، ويحْلِقون، أو يقصِّرون ويفْدون، وحجهم بالفدية يجْبُرون، وكلها خطواتٌ واحدة، تؤكِّد وَحدة الأمة، وشدةَ ترابطها في كل ملمح من ملامح حياتها الإيمانية، وعباداتها الدينية وهو أمر يؤكد أنها على أتقى قلب رجل واحد، وهم يد واحدة على من سواهم، وهو مشهد يأخذ بالألباب على صعيد عرفات الطاهر، أو في المشعر الحرام، أو مشعر منى، أو في طوافهم بالكعبة.
إنَّ الأعياد ترسِّخ في قلوبنا وأرواحنا موضوع التكافل الاجتماعي، وخصوصًا في الفدية، وذبح الأضاحي للحاج، وغير الحاج، حيث تجد المسلمين في كل مكان يتكافلون، ويعطي الواجدُ غيرَ الواجدِ، ويشارك الغنيُّ الفقيرَ بِعَوْدِهِ عليه من أضاحيه، ولحومه، وخيره، وزاده، وطعامه، وتجد الفقراء في هذه الأيام مستورين، وعندهم ما يكفيهم من الزاد، والطعام من إخوانهم المسلمين.
إنّها تبيِّن أن الإسلام ليس طقوسًا جوفاءَ، ولا مظاهرَ خرساءَ، وإنما هي سلوكياتٌ واقعية، وأخلاقياتٌ حيَّة، غرسها الإسلامُ في نفوس أهله، وقلوب أتباعه، وجعلها فطرة، والتزاماتٍ عمليةً، حيث يُدخِل المسلم الفرحة على قلوب أولاده، وأطفاله، ويتزاور مع إخوانه، وأقاربه، وأهل بلدته بحبٍّ صادق، ويتبادلون التحايا، والتباريك، والتهاني، والهدايا، وكلك يتهادون باللحوم، ويدعو بعضهم لبعض، وتتعالى عباراتُ التهنئة بحلول العيد من نحو:(عساكم من عواده، كل عام وأنتم بخير، عيدٌ مبارك، وأضحَى كريمٌ، أعاده الله عليكم بالخير، واليمن، والبركات، والإيمان، عيدٌ سعيد عليكم، وعلى أسرتكم، تقبل الله طاعتكم، تقبل الله منا ومنكم، ورزقكم حجَّ بيته، وزيارة مدينة رسوله، والصلاة في مسجده ..) إلى آخر ما نسمعه من تهانٍ، وكلماتٍ جميلةٍ في تلك المناسبة العظيمة المباركة.
إنّها أعيادٌ شُرِعَتْ للذكر، والشكر، وإيقاظ الهمم لطاعة الله، واستنهاض العزائم لعبادة الله؛ ولذلك تجد أن معظم آيات الحج فيها تكرارُ الذكر، والأمر به، والتنبيه عليه، والتذكير الدائم لكلِّ مسلم؛ وذلك لأن ذكر الله يعني يقظة الضمير، وحضور العقل، واستنهاض التقوى، والخشية، فليس الأمرُ مجردَ لسان يتحرك، بقدر ما هو سلوكٌ يتشكَّل، وخشيةٌ تتحصَّل، ووَجَلٌ من الله يدعو إلى خير العمل، وعمل الخير، وكريم الرقابة، وجمال الفعل، وجلال الغاية، وجميل السلوك، وحسن العشرة.
فالمتتبع للآيات الكريمات يجد بالفعل أنَّ أهمَّ ما تتَّسم به آيات الحج في كل سور القرآن الكريم هو الذِّكر، بكلَّ صوره، وما سنَّه لنا الرسول الكريم في ذلك، فتجد الجمل القرآنية الآتية تتخلل آيات الحج:(فاذكروا الله عند المشعر الحرام- واذكروه كما هداكم واستغفروا الله فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا- واذكروا الله في أيام معلومات..)، بالإضافة إلى كل ما ورد في سورة الحج، وغيرها من السور التي تَكَلَّمَتْ عن بعض أحكام الحج في القرآن الكريم، تجدها كلها تأمر بالذكر، وتنبه عليه، وتدعو المسلم حاجًّا، وغير حاج إليه وإلى شيوعه في كل مكان، اقرأ الآيات الخاصة بتلك الشعيرة مثلا في سورة البقرة (الآيات من 198 الى 203)، يقول الله تعالى:(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
إنّ تلك الأعياد تتَّسم بأنها أعيادٌ دينية خالصة لعبادة الله، يحوطها الاتصال بالله، وتحفُّها الملائكةُ، وتغشاها الرحمة، حيث تبدأ بعد انتهاء فريضة إسلامية، هذه الفريضة فيها كل القيم، والإيمانيات، والروحانيات، وذكر الله، وفيها زيارة بيت الله الحرام، والطواف، والسعي، والنحر، والدعاء، ومَنْ ليس حاجًّا تراه يضحِّي بأضحيته، ويوزعها ثلاثا، ولا ينسى الفقراء في ثلثها، ونفسه في ثلثها، وأقرباءه وأحباءه في ثلثها الثالث، ويوزع على الفقراء؛ وذلك لأجل تحصيل الثواب، كما يعطي الصغار الأموالَ الجديدةَ (فيما يُسَمَّى بالْعِدِيَّة)، ويضاحكهم، ويخرج بهم إلى المتنزهات، والحدائق، ويلاعبهم، ويُفْرِحُهم؛ ابتغاءَ إدخال السعادة عليهم، وتحصيل رضا الله في الوقت نفسه، كما أن الأُسَر تتزاور في الله، ويذكِّر بعضُها بعضًا بجلال العيد، وسعة فضل الله فيه، ونعمة الحج التي اشترعها لمحو الذنوب وعودة الحاجِّ أبيضَ الصحائف، كما ولدته أمه، ويكون اللقاءُ كلُّه في الله، ولله، فهي أعيادٌ ربانية، يكثر فيها ذكر الله، ونظل نذكر الله عقب كلِّ صلاة، ونكبره، ونمجده، ونعظمه، في المساجد والبيوت عقب كل فريضة كطيلة أيام التشريق حتى عصر اليوم الرابع منها، ونتذكر فضل الله علينا، ونِعَمَه التي لا تُحصَى، وألفاظ الذكر كلُّها معانٍ تعبِّر عن ذلك عند التفكر فيها، والوقوف عند معانيها، وعطاءاتها، ومراميها، والاجتهاد في فهمها ألفاظها،وأهدافها،وغاياتها السامية.
أعيادنا تذكِّرنا بسلفنا الصالح، وبأنبياء الله الأطهار، تذكِّرنا بنبيِّ الله إبراهيم خليل الرحمن ـ عليه الصلاة والسلام ـ الممتثل لكلِّ أوامره، المسلِّم لربه في كل شيء، حتى في منامه الذي رآه، نفَّذه دون تردُّد؛ لأن رؤيا الأنبياء حق، وكاد يُودِي بفلذة كبده، بابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ من صدق الامتثال، وسرعة التنفيذ، وسيدنا إسماعيل امتثل لرؤيا والده امتثالاً تامًّا، وأسلما معًا لله، وتله للجبين أي وضع جبينه على مكان مستو ووجهه تجاهَ الأرض، لا تجاه وجهِ والده حتى لا تأخذه الشفقة، ولا حنانُ الأبوة، فيتراجع عن تنفيذ ما رآه في المنام، ولكنَّ رحمة الله عاجلتْه، وفداه ربُّنا بذبح عظيم، فعلَّمَنا في حياتنا، وعباداتنا، وعلاقاتنا بربنا أن نكون مخبتين، ممتثلين، مسلِّمين، أبرارا لله رب العالمين، فكانت رؤياه، والفداء الذي تمَّمن الله له جراء تسليمه لربه عيدًا لنا، نتذكره كلما مَرَّبنا العيدُ، ونتذكر هذا النبيَّ الكريم الذي اتخذه الله خليلا له، ونقتفي أثره، ونمضي على خُطاه، عسانا أن ننال شيئا من مودة الله، وجلال خُلَّته، وكمال عطائه، فاقرأ، وتأمل كم كان التسليمُ، وصدقُ الإخبات، ولم استحق أن يصفه الله بأنه من المحسنين، وأن يقال في حقه: (سلامٌ على إبراهيم)، ووصفه مرتين في مكان واحد بأنه من المحسنين، ومن عباد الله المؤمنين، اقرأ، وتأمّل، وتوقَّفْ عند تلك الآيات التي نستحضرها دائمًا في عيد الأضحى؛ لمناسبتها، وأنها كانت سببًا في كلِّ ما نحن فيه من أضحيات، أو أضاحٍ، وذكْر، وأعياد، وفَرَحٍ، فصلَّى الله، وسلَّم، وبارك على سيدنا إبراهيم، وعلى كلِّ أنبياء الله الصالحين، المصلحين، وخاتمتهم سيدنا محمد، صلى الله عليه، وعليهم، وسلم أجمعين.
كل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم، وعساكم من عواده، والله يتقبل منا ومنكم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]