أيها القراء الكرام.. كلما مرت أيام مباركة على المؤمن زادته إيمانًا على إيمانه وثقة بربه لا حدود لها، وهذه من حكم الله تعالى أن جعل لنا بين أيامنا وليالينا.. أيامًا وليالي خاصة ميّزها سبحانه بفضل وبركة يزداد عباده فيها قربًا منه ـ جلَّ وعلا.
وقد مررنا بمناسبة عظيمة مباركة.. منا من حجَّ بيت الله الحرام وعظَّم شعائر ربه وزادته تقوى لقلبه، ومنا من صام عرفة وذبح أضحية ابتغاء مرضات الله فتصدق وأبقى، ووصل الأرحام وذوي القربى، فازداد إيمانًا على إيمانه وتقوى على تقواه، وهذا يدعونا أن نتمسك بما نلنا من فضل عظيم من الله تعالى وألا نتقهقر أو نرجع عما وصلنا إليه من قرب وصلة، فالمؤمن ينبغي أن يزداد من الله قربًا يومًا بعد يوم.. وعامًا بعد عام، وحتى نتحمس لذلك ونسير عليه بخطى حثيثة، فإن لنا في سلفنا من المؤمنين نماذج عظيمة وجليلة نأخذ منها القوة والنشاط، والمنعة من التقهقر والرجوع، ومن تلك الأمثلة:(السيدة هاجر زوجة سيدنا إبراهيم وأم سيدنا إسماعيل ـ عليهم السلام)، فقد كانت امرأة مؤمنة واثقة بربها وقد مرّت بامتحان شديد وقد نجحت بتفوق وامتياز، فعندما اصطحبها سيدنا إبراهيم (عليه السلام) هي وولده إسماعيل بأمر من ربه، وقد تركها عند بيت الله الحرام بالقرب من جبلي المروة والصفا، فلما انتهى منها الماء كانت سيدتنا هاجر (أم إسماعيل) قد ترددت بين الجبلين لتطلب الماء لولدها بعد أن تركهما إبراهيم (عليه السلام).
وبالله عليك ـ أخي القارئ ـ فبماذا تفكر امرأة عندما يتركها زوجها مع رضيعها في مكان لا طعام فيه ولا ماء؟ هنا قالت هاجر قولتها المشهورة: إلى من تكلنا؟ آلله أمرك بذلك؟ فقال سيدنا إبراهيم: نعم. فقالت: إذن لن يضيعنا، لقد استغنت بالخالق عن المخلوق، ولم تنطق مثل هذا القول إلا بوحي من المسبب، وهذه أول قضية إيمانية مع ملاحظة الأرضية الإيمانية التي وجدت عليها، حينما دعا إبراهيم (عليه السلام) ربه، وإذا تأملت ـ أخي المؤمن ـ في ذلك الدعاءفاعلم أنه غير ذي ماء، فحيث يوجد الماء؛ يوجد الزرع، فالماء هو الأصل الأصيل في استبقاء الحياة، وعندما يغيب الماء عن أم ووليدها، فماذا يكون حالهما؟ لقد عطش ولدها وأرادت أن تبحث عن نبع ماء أو طير ينزلفي مكان لتعلم أن فيه ماء، أو ترى قافلة تسير ومعها ماء؛ لذلك خرجت إلى أعلى مكان وتركت الوادي، وصعدت إلى أعلى جبل الصفا فلم تجد شيئًا، فنظرت إلى الجهة الأخرى؛ إلى المروة، وصعدت عليها فلم تجد شيئًا، وظلت تتردد بين الصفا والمروة سبعة أشواط.
ولنا أن نتصور ـ إخوة الإيمان ـ حالة امرأة في مثل سنها، وفي مثل وحدتها، وفي مثل عدم وجود ماء عندها، ولابد أنها عطشت كما عطش وليدها، وعندما بلغ منها الجهد، انتهت محاولاتها، وعادت إلى حيث يوجد الوليد، ولو أن سعيها بين الصفا والمروة أجدى، فرأت ماء لقلنا: إن السعي وحده قد جاء لها بالماء، لكنها هي التي قالت من قبل بثقة إيمانية: (إذن لن يضيعنا)، وهي بهذا القول قد ارتبطت بالمسبِّب لا بالسبب، فلو أنه أعطاها بالسبب المباشر وهو بحثها عن لماء لما كان عندها حجة على صدقها في قولها: (إذن لن يضيعنا). ويريد الحق سبحانه وتعالى أن ينتهي سعيها سبع مرات بلا نتيجة، وتعود إلى وليدها، فتجد الماء عند قدمي الوليد إسماعيل، وهكذا صدقت هاجر في يقينها، عندما وثقت أن الله لن يضيعها، وأراد الله أن يقول لها: نعلم لن أضيعك، وليس بسعيك؛ ولكن بقدم طفلك الرضيع؛ يضرب بها الأرض، فينبع منها الماء، وضرب الوليد للأرض بقدمه سبب غير فاعل في العادة، لكن الله أراده سببًا حتى يستبقى السببية ولو لم تؤد إلى الغرض.
(وحين وجدت هاجر الماء عند قدم رضيعها أيقنت حقا أن الله لم ولن يضيعها، وظل السعي شعيرة من شعائر الحج إلى بيت الله الحرام، استدامة لإيمان المرء بالمسبب وعدم إهماله للسبب، وحتى يقبل الإنسان على كل عمل وهو يؤمن بالمسبب، ولذلك يجب أن نفرق بين التوكل والتواكل، فإن التوكل عمل قلب وليس عمل جوارح، والتواكل تعطيل عمل الجوارح، وليس في الإسلام تواكل، إنما الجوارح تعمل والقلوب تتوكل، هكذا كان توكل هاجر، لقد عملت وتوكلت على الله؛ فرزقها الله بما تريد بأهون الأسباب، وهي ضربة قدم الوليد للأرض) (تفسير الشعراوي 2/‏ 667)، ومنها نأخذ مثالًا قويَّا يجب أن نقتدي به ولابد أن نكون دائمًا مع الله تعالى فهو سبحانه لن يضيعنا، ومن الأمثلة أيضًا على الثقة بالله تعالى وقوة الإيمان واليقين به سبحانه السيدة خديجة ـ رضي الله تعالى عنها ـ وقتما نزل عليه الوحي أول مرة وكان ـ صلوات ربي عليه وسلامه ـ يرتجف وهو يحتاج إلى من يعينه ويقويه ويسانده، فانظروا ماذا فعلت السيدة المؤمنة الواثقة بربها، ففي (صحيح البخاري):(6/‏ 173)عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَتْ: كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ قَالَ: وَالتَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ ـ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ المَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: (اقرَأَ بِاسمِ ربِّكَ الذي خَلَق، خَلَقَ الإنسانَ مِن عَلَق، اقرَأَ وربُّك الأَكرَم، الذي عَلَّمَ بِالقَلَم، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَم يَعلَم)(العلق 1ـ5)، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، قَالَ لِخَدِيجَةَ: أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، قَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ، وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، قَالَ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا، ذَكَرَ حَرْفًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا أُوذِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).. وهكذا يكون واثقًا بربه، موقنًا بما عنده راضيا بقدره، نسأل الله أن نكون كذلك.

* محمود عدلي الشريف
[email protected]