لا تخلف الحروب إلا المآسي، الأيتام والأرامل ومساحات واسعة من القبور التي تضم رفات ضحاياها من الآلاف أو الملايين الذين حرموا من الحياة ووئدت أحلامهم وتطلعاتهم للمشاركة والمساهمة في الازدهار والنمو والبناء والتقدم وعمارة الأرض..

عندما كنت في مدينة “ميونيخ” في ألمانيا قبل سنوات، وتحديدا في قلب ساحة “مارين بلاتز” الصاخبة، النابضة في كل جزء من جسدها الفاتن بالحياة، والتي تلفت نظر زائرها إلى عشرات المشاهد والمواقف والمعالم الكاشفة عن إبداع الإنسان وجلالة أعماله وقدراته الفائقة والفريدة وإرادته الصلبة على إعادة الحياة والبهاء والجمال والأناقة للمدن المشوهة والمدمرة والمسحوقة والمفتتة بسبب الحروب الطاحنة التي تتلف وتفسد وتهدم كل ما بناه وأقامه الإنسان وحققه من إنجازات على مدار التاريخ، وعشقه للحياة والجمال وتشبثه بالتفاصيل التي تملأ نفسه بهجة وفرحة، وانفصال وقطيعة الشباب المتدفق بالحيوية المسرع إلى ميادين وساحات العمل، عن مرحلة الحروب والكوارث التي شهدتها أوروبا قبل أكثر من نصف قرن... ساعتها استعدت عقودا من الزمن وعشت واقع هذه الأمكنة قبل ثمانين عاما على ضوء ما قرأناه وشاهدناه وسمعناه في الكتب والتقارير الإخبارية والبرامج الوثائقية والأعمال الدرامية... التي وثقت للمآسي التي عاشتها أوروبا في تلك الفترة السوداوية من تاريخ البشر، وقارنت بين مشهد علق في ذاكرتنا بوقع القراءة والمطالعة، وآخر أعايشه في بث مباشر تقدمه ساحة “مارين بلاتر” في المدينة التي كانت يوما ما، “المهد الذي احتضن الفكر النازي مستثمرا الأوضاع المأساوية وحالة الكساد التي تعيشها ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى من دمار وفوضى عارمة وشلل اقتصادي شبه كامل، قاد إلى تفاقم وانتشار السرقات والبطالة والجوع، لبث أفكاره ونشر دعوته وتحقيق مكاسب شعبية، فكان الإعلان المشؤوم على ألمانيا خاصة وعموم أوروبا عامة في صباح يوم من أيام العام 1932م، عندما (فوجئت السلطات بوقوع ميونيخ في يد هتلر الذي احتل المباني العامة كلها، وأرغم الصحف بالتهديد على إعلان انتصار الثورة”. فعبَّرت عن الموقف في بضع كلمات سجلها قلمي لحظتها، “في ساحة (مارين بلاتز)، في قلب ميونيخ التي تضم أعرق المباني وأكثرها جمالا وجاذبية وأناقة وجلالا، وأسواقا عصرية تعج بالمتسوقين والأكشاك التي تبيع التحف النادرة والصور والشعارات التذكارية، والمقاهي والمطاعم والعلامات التجارية العالمية، وتربطها بجسد ميونيخ المهيب عشرات الأزقة والشوارع والزوايا، يطيب لي أن أجلس في أحد مقاهيها التي تفترش الساحة، أحتسي فناجين القهوة وأتأمل وجوه البشر وأقرأ ملامحها وتقاطيعها لأستنتج منها مضامين الثقافة العامة وأحداث التاريخ وتحوُّلات الحياة وألوانها ومتاعبها ورخائها، وكيف يعيشون ويتكيفون معها، والفوارق بين أعمار تجاوزت السبعين وأخرى على مشارف العشرين. يستنتج المتأمل والمتابع بأن الألمان يعيشون عصرهم في أمن واستقرار وسلام مع النفس، ينعمون برفاهية العيش ورخاء الحياة، يعملون بجد وإصرار يوظفون العلم والمعرفة والبحث العلمي والابتكار لتحقيق المزيد من المنجزات الحضارية، منشغلين كلية بمتانة اقتصاد بلادهم وضمان منافسته لأعتى الاقتصادات وتعزيز الموارد والاستمتاع بملذات الدنيا الكثيرة، وقد تعبوا من الحروب وتعافوا من الشعارات العنصرية التي يتم استثمار البسطاء بها، من الفوضى والعبث بقيمة الإنسان وتدمير ما بناه في عقود وقرون خلال أيام، والتي كلفتهم الكثير من الموارد والثروات المالية والبشرية، وفي مثال واحد فقط ضمن سلسلة من الأحداث والحروب المقيتة والمدمرة يقال بأن (خمسة أسداس القرى والمدن الألمانية خربت وأن الأهالي الذين كانوا 18 مليون نفس نزلوا إلى أربعة ملايين)، وذلك في العام 1648م عندما قاد الإمبراطور فرديناند الثاني حملة شعواء للقضاء على البروتستانتية في ألمانيا فـ(أرسل جيوشه تخرب وتدمر). عصور حزينة ومؤلمة من التاريخ الإنساني شهدته هذه المنطقة من العالم، أما اليوم فقد تم تجاوز كل تلك الفواجع والكوارث، فالعصر عصر تمدن وتقدُّم ورُقي ورخاء وتكتلات اقتصادية ومعالجات لمشاكل الإنسان”. فهل ستتمكن أوروبا من الإفلات من أضرار الحروب الأوكرانية، وهل ستبقى واحة سلام وتمدُّن ورُقي وازدهار، تضيف وتبني وتتقدم أكثر فأكثر محافظة على استقرار استمر لما يزيد عن ستة عقود؟ أم أن الجبهة الأوكرانية المشتعلة سوف تقوض هذا المنجز الإنساني الحضاري وسوف تعيد أوروبا من جديد إلى مآسي حروب القرن المنصرم؟ وأين موقع أو موقف الإنسان ـ المواطن ـ الفرد ـ المجتمع العادي البسيط، مما يحدث في أوكرانيا؟ ما هو رأي مئات الملايين من المواطنين في روسيا وأوكرانيا وأوروبا وأميركا، في هذا الحرب “العبثية” ـ من وجهة نظري الشخصية فإن معظم الحروب التي يفتعلها البشر، ويطلق شرارتها الأولى زعيم أو نظام سياسي، عبثية ـ التي أحكم صناعتها وأتقن زراعة الضغينة ومراكمة الاستفزاز والإيقاع بأطرافها في فخ شراكها، وأوقد نارها وأشعل حرائقها ووقف حائلا يعيق أي شكل من أشكال التفاوض والتفاهم والاتفاق والمعالجة الدبلوماسية... من رأى فيها وتيقن، تحقيقا لأهدافه، وتحصيلا لمغانم كثيرة، ومضاعفة لمنافع سوف تتحصل له منها؟ إذ كيف ستجرى المفاوضات، وتحقق الدبلوماسية غاياتها، ويحدث الاتفاق وتعقد اللقاءات وتمضي المعاهدات، والولايات المتحدة الأميركية المهيمنة والمتسيدة ومن خلفها بريطانيا وأوروبا ـ المغلوبة على أمرها ـ المنفذة والماضية قدما وراء السياسة الأميركية ومن سار في ركابها وائتمر بأمرها من دول العالم، تتولى حكوماتها تسيير أساطيل السلاح والمال والمرتزقة لمحاربة الروس في أوكرانيا؟ وهل ترك الغرب في سلسلة القرارات والسياسات المتخذة للسطو على الأموال الروسية المودعة والمستثمرة في مصارفها وشركاتها، والعقوبات الاقتصادية الواسعة ـ التي يرى العديد من المحللين والخبراء أنها ألحقت الضرر بفارضيها أكثر من روسيا وأفقدت أصحاب رؤوس الأموال الثقة في الغرب ـ فرصة لإيقاف الحرب والتمسك بخيار السلم وإنهاء معاناة الملايين من البشر؟ ما رأي العامة والسواد الأعظم من سكان هذه الدول المتفاخرة بقيم الديمقراطية، بسياسات حكوماتها السائرة قدما وبكل عزم وتصميم ومكابرة إلى صب المزيد من الوقود في ساحة الحرب لتنشيطها واستمرارها واتساع رقعة اشتعالها، وضمان تمرير صفقات السلاح والأدوية والاتفاق مع مافيات المرتزقة التي ستعود بالمزيد من المليارات لجيوب وحسابات الشركات والتجار والأغنياء المتخصصين والمستثمرين فيها، والساسة المؤتمرين بأمرهم في علاقات المصالح المعروفة التي كتب عنها وكشف حقيقتها وفندها بالتفصيل كتاب ومفكرون لهم المكانة والصيت والموثوقية في الغرب؟ مثالا كتاب “رأسمالية الكوارث، كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية”، لكاتبه المعروف “أنتوني لوينشتاين”، الذي كشف فيه عن عالم “متخم بالمال، يهيمن عليه انتهازيون يجنون أرباحا فاحشة من استغلال الكوارث، كما يحكمه صيادو الموارد، ومقاولو الحروب، والطفيليون المستفيدون من المساعدات)، هؤلاء هم الذين يعملون بكل ما في وسعهم من نفوذ على الإبقاء على الحروب وإطالة أمدها بهدف (دعم وتشغيل صناعات لديها حصة مالية فيها. هذه الشركات شبيهة بالطيور الجارحة التي تتغذى على جثة حكومية ضعيفة). حيث أصبحت (الشركة أكثر قوة من الدولة). يكشف (أنتوني لوينشتاين) الكثير من الحقائق الصادمة التي توصل إليها، فالحرب على الإرهاب كنموذج آخر لصناعة الحروب (جلبت ثروات طائلة لا يمكن حصرها لشركات سعت إلى الاستفادة من الخوف: شركة “سي أيه سي آي” الأميركية التي تخصصت في توفير المحققين لسجن أبو غريب في العراق، كانت متواطئة في ممارسات تعذيب العراقيين، كما أن شركة “بوينج” أكبر شركة لصناعة الطيران في العالم، كانت متورطة في تسيير رحلات “التسليم الاستثنائي” لنقل أشخاص مشتبه فيهم من أجل تعذيبهم...). ورصد الكاتب تآمرا بين (الشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية، ومسؤولي الحكومة، وقوات الأمم المتحدة المسلحة، وجماعة المعونة، والمتبرعين)، فيما يخص التبرعات السخية التي كانت تتدفق على هاييتي التي (تعد أفقر دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية)، وفي الوقت ذاته تتحدث المؤشرات بأنه ووفقا لوزارة الزراعة الأميركية (كان ما يقرب من ١٤ في المائة من سكان البلاد يعجزون عن الوصول إلى الطعام الكافي اللازم لحياة نشطة وصحية لجميع أفراد الأسرة). فأين موقع الشعوب المسحوقة التي تكدح ليلا ونهارا وتشقى وتكد لتوفير مستلزمات واحتياجات حياتها الأساسية واليومية في أعتى وأعرق البلدان التي تفاخر وتعتصم وتجاهر بمبادئ الديمقراطية؟ بل أين هي قِيَم الديمقراطية والمشاركة والتمثيل وحرية التعبير وحقوق المواطن... من قرار هذه الحروب والمشاركة الرسمية فيها؟ هل أخذ رأيهم ـ أي الشعوب ـ وهل تقف مؤازرة مؤيدة مساندة لحرب أشعلت نار أسعار السلع الغذائية والطاقة وتسربت أضرارها إلى بيوت الفقراء ومنخفضي ومتوسطي الدخل في أنحاء العالم، وهجرت وشردت الملايين وفتكت وتسببت في إعاقة الآلاف ودمرت أجزاء واسعة من أوكرانيا البلد السياحي الجميل؟ فمن يتحمل مسؤولية هذا الخراب الواسع والعميق والتدمير الهائل الذي لحق بقطاع واسع من الناس في أنحاء المعمورة؟ لا يفكر الساسة والأغنياء ومافيات السلاح ومرتزقة العالم ـ للأسف الشديد ـ في مصالح العموم، ولا يكترثون بانعكاسات وأضرار ومخاطر الحروب ما دامت تدر عليهم الثروات، هذا ما تعلمناه من دروس التاريخ وأحداث الأيام ومعارك البشر المستمرة والمتناسلة من رحم منافع ومصالح القلة القليلة المتربعين على كرسي السيادة في العالم. لا تخلف الحروب إلا المآسي، الأيتام والأرامل ومساحات واسعة من القبور التي تضم رفات ضحاياها من الآلاف أو الملايين الذين حرموا من الحياة ووئدت أحلامهم وتطلعاتهم للمشاركة والمساهمة في الازدهار والنمو والبناء والتقدم وعمارة الأرض، لتأسيس أسر وحياة وأعمال وأفكار تسعد الإنسان. لقد صور الكاتب الكبير الكسي تولستوي الذي (كتب في العديد من الموضوعات والأنواع الفنية، ولكنه تميز بروايات الخيال العلمي والروايات التاريخية)، في روايته الملحمية (درب الآلام) تلك الحروب المشوهة للأخلاق والقِيَم الإنسانية والتي انتزعت الرحمة من قلوب صانعيها ومشعليها أفضل تصوير، “لقد خرج الجميع إلى الحرب، من الأطفال حتى الشيوخ ـ الشعب بأسره. فقد كان في هذه الحرب شيء فوق الإدراك الإنساني. كان يبدو وكأن العدو على وشك أن يدحر وقد استنزف دمه، وما هو إلا جهد آخر، ويهل النصر الحاسم. ويبذل الجهد ولكن كانت تطلع مكان جيوش العدو المتفتتة جيوش جديدة كانت تسير للقاء الموت في جموح قانط، وتهلك. لم تكن لا جحافل التتار ولا كراديس الفرس تقاتل بتلك القسوة، وتموت بالسهولة التي كان يموت فيها الأوروبيون الضعاف الأجسام المدللون، أو الفلاحون الروس الماكرون، الذين رأوا أنهم ليسوا إلا ماشية عجماء ـ لحوما في هذه المجزرة التي دبرها السادة”. وها هو التاريخ يعيد أحداثه ويكرر قرارات الإنسان القاتلة وأخطاءه المدمرة، فترسانة الأسلحة التي كانت تتحرك على الحدود الأوكرانية، وقيل في البدء إنها بهدف الترهيب والتخويف والضغط للحصول على تنازلات، أشعلت ساحة المعارك في المدن الأوكرانية، وما اعتقد أنها حرب خاطفة استمرت الآن لما يقارب الخمسة أشهر، مصحوبة برعب نقص الإمدادات الغذائية ومسلسل ارتفاع الأسعار المتواصل في الأسواق وانكماش الاقتصاد العالمي ونذر عواصف وأزمات وتمدد الحرب لتأخذ أبعادا ومساحات وبلدان أخرى، فإلى أي منزلق تقود قرارات فرد أو بضعة أفراد ونظام سياسي العالم؟؟

سعود بن علي الحارثي
[email protected]