لقد خلق الله تعالى الإنسان وكرمه، وميّزه بالفصاحة والبيان وعلمه، فجعله يتكلم وبفصح عما في داخله، ويعبر عما يجول في خاطره، وعلى كل المخلوقات فضله، واستخلفه في الكون وسخره له، وهي نعمة منه سبحانه لم تكن إلا له، ولهذا يجب على الإنسان أن يراعي هذه النعمة وأن يشكر ربه عليها، فكيف به إن لم يكن قد وهبه الله تعالى الكلام، لا شك أن حياته ستكون جحيمًا، فاللهم لك الشكر على أن علمتنا الكلام والفصاحة، (قال ابن زيد: أعطي فصل ما يتخاطب الناس به بين يديه في الخصومات) (الهداية الى بلوغ النهاية 10/‏ 6217)، و(قال ابن الخطيب: فصل الخطاب عبارة عن كونه قادراً على التعبير على كل ما يخطر بالبال ويحضُر في الخيال بحيث لا يخلِط شيئاً بشي وبحيث يفصل كُلّ مقام عما يخالفه. هذا معنى عامّ يتناول فصل الخصومات ويتناول الدعوة إلى الدين الحق ويتناول جميع الأقسام والله أعلم) (اللباب في علوم الكتاب 16/‏ 393).
ومن هنا ندرك أن (فصل الخطاب وهو القدرة على ضبط المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتى يكون كاملا مكملا فهما مفهمًا) (غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري5/‏ 587).
فسبحان الذي علم الإنسان (معرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند وكسوناه عزًّا وهيبة ووقارًا يمنع أن يجترئ أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات، وميز بين المشكلات الغامضات، وإذا تكلم وقف على المفاصل، فيبين من سرده للحديث معانيه، ويضع الشيء في أحكم مبانيه) (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 16/‏ 355).
وعلى الرغم من أنه الله علمه الفصل في الخطاب ليتكلم وهذا (هُوَ الْبَيَان الْفَاصِل بَين الْحق وَالْبَاطِل) (تفسير السمعاني 4/‏ 430)، وهناك تفسير جزئي على أن الفصل هو العزل والخطاب هو البيان وعليه فتعلم الإنسان أن يفصل بين الكلام المختلف عن بعضه أو الاستهلال وصلب الموضوع(قَالَ ابْنُ الْأَثِيْرِ: وَالَّذِيْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُوْنَ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ أَنَّ فصْلَ الْخِطَابِ هُوَ:(أَمَّا بَعْدُ) لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِ يَفْتَتِحُ كَلَامَهُ فِيْ كُلِّ أَمْرٍ ذِيْ شَأْنٍ بِذِكْرِ اللهِ وَتَحْمِيْدِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى الْغَرَضِ الْمَسُوْقِ لَهُ الْكَلَامُ؛ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِكْرِ اللهِ؛ بِقَوْلِهِ: “أَمَّا بَعْدُ”) (درر الفرائد المستحسنة في شرح منظومة ابن الشحنة، ص: 484)،(وذكره الشّعبِيّ: أَن مَعْنَاهُ: أما بعد، وَإِنَّمَا سمي: أما بعد فصل الْخطاب، لِأَن الْإِنْسَان يذكر الله وَيَحْمَدهُ، فَإِذا شرع فِي كَلَام آخر قَالَ: أما بعد، فقد كَانَ كَذَا، وَكَانَ كَذَا)(تفسير السمعاني 4/‏ 431)، وقيل:(فصل الخطاب وهو القول الواضح عند العقل والقلب والحكم والفضاء حقًّا كان أو باطلًا، بل منه ما يتضمن إقامة الحق والحث على الخير، كانت العرب تطلق اسم الحكمة على قوة جامعة لرزانة العقل والرأي وشرافة الخلق ومن هذا سموا الرجل العاقل المهذب حكيما، له من نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به والصبر عن الهوى والباطل وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام. نعم الإفراط في كل شيء مذموم وخير الأمور أوسطها). (الشعر في ضوء الشريعة الإسلامية، ص: 161)، وأيد ذلك (ابن عباس فقال: بيان الكلام، وقال ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل: علم الحكم والتبصر)(تفسير البغوي ـ إحياء التراث 4/‏ 58). ومن هنا ينبغي عليك ـ أخي القارئ الكريم ـ أن تنظم أفكارك وتسلسل حوارك وتضبطه بحسا الأسلوب وجمال الإلقاء وهذا من حسن فصل الخطاب، فـ(الفصل: التمييز بين الشيئين. وقيل للكلام البين: فصل،أي مفصول بعضه من بعض، فمعنى فصل الخطاب: البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه، ومن فصل الخطاب وملخصه: ألا يخطئ صاحبه مظانّ الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة، لفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ،ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخلّ ولا إشباع مملّ. ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: فصل لا نذر ولا هذر)(تفسير الزمخشري 4/‏ 80).
وتعجب كل العجب عندما تطلب من إنسان أن يتكلم في موقف معين فيقول ما عندي ما أقوله، وهذا إما أن يكون عن حياء منه ولو حاول لاستطاع، وإما أن يكون عن عدم ثقافة وهو ما أريده من خلف هذه المقالة أن تجدد من نفسك أخي الكريم لتكون صاحب منطق مرتب جميل متى ما طلب منك، ولاتكن كمن يخشى الحديث بين الناس ونسي (أن الله تعالى آتاه البيان، و أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، وهذه صفة قليل من يدركها، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن:(إنّه لقولٌ فصلٌ) (الطارق ـ ١٣)،وقد كان كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فصلًا، بل ويزيد رسولنا(صلى الله عليه وسلم) على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، ففي (صحيح مسلم 1/‏ 371):(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ) وهذا من تخصصه(صلى الله عليه وسلم) فإنها في الخلال التي لم يؤتها أحد قبله)(تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 4/‏ 497)، (ولما كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أوتي جوامع الكلام، وعلم فصل الخطاب. فلم يسمع الناس كلامًا أعم نفعًا، ولا أقصر لفظًا، ولا أعدل وفرًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا. ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه (صلى الله عليه وسلم)، إذ جمع الفضائل، ونظم آحاد العقائل، وحاز من العلم الذري والغوارب. فلا يخفى على ذي لب أنه أغرق في الفهم فصولا، وأعرق في العلم أصولًا)(تفسير ابن كثير، ت: سلامة 8/‏ 541)،وقد خلقه ربه علة ذلك (وجبله عليه من الرّحمة والرأفة، وخصّه به من الرّصانة والرّجاحة، والشّجاعة والسّماحة، وآتاه من فصل الخطاب، وجوامع الصّواب ومحاسن الآداب، ووقاية الدّين، والغلظة على الظالمين، واللّطف بالمؤمنين) (صبح الأعشى في صناعة الإنشاء 9/‏ 407).
وهنا سؤال يطرح علينا نفس ألا وهو: هل كل الناس يحسن الحوار وفنونه؟ والإجابة عليه: بالطبع لا، فلو (لو تكافأ الناس في فصل الخطاب، لما عرف الخطأ من الصواب)(سحر البلاغة وسر البراعة، ص: 198).
ولهذا أخي الكريم..(اعلم أن أجسام هذا العالم على ثلاثة أقسام أحدها: ما تكون خالية عن الإدراك والشعور وهي الجمادات والنباتات. وثانيها: التي يحصل لها إدراك وشعور ولكنها لا تقدر على تعريف غيرها الأحوال التي عرفوها في الأكثر، وهذا القسم هو جملة الحيوانات سوى الإنسان. وثالثها: الذي يحصل له إدراك وشعور ويحصل عنده قدرة على تعريف غيره الأحوال المعلومة له، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف الغير الأحوال المعلومة عنده بالنطق والخطاب، ثم إن الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبير عما في الضمير، فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنتظم بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول، ومنهم من يتعذر عليه الترتيب من بعض الوجوه، ومنهم من يكون قادرا على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى أقصى الغايات، وكل من كانت هذه القدرة في حقه أكمل كانت الآثار الصادرة عن النفس النطقية في حقه أكمل، وكل من كانت تلك القدرة في حقه أقل كانت تلك الآثار أضعف، ولما بين الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله: وآتيناه الحكمة أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد، وأقول حقًّا إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرمانا عظيما والله أعلم، وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضا، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرا على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال، بحيث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام.. والله أعلم.

* محمود عدلي الشريف
[email protected]